سنوات مع الكفاح .. وقصة بطولة

| عالم المكتبات | حبيب سلامة | 

 

بقلم: د. صفوت حبيب سلامة

بين أسرة متوسطة الحال تقيم فى حارة الروم بحى الدرب الأحمر بالقاهرة. وبين عائلة يعمل معظم أفرادها – بالوراثة – فى تجارة الذهب .. وبين والدين يؤمنان بأن تسعة أعشار الربح فى التجارة .. وبين أشقاء من البنين والبنات .. وبين مجتمع يعيش أحداث الحرب العالمية الأولى .. نشأ والدى حبيب سلامة.

وسرعان ما وضع الجهل بشئون العلاج بصماته على عينيه، لتغطى اليمنى منها بسحابة تحد من إبصاره بشكل ملحوظ .. والتى كانت فيما بعد سبباً للقيد من إنطلاقه، وتحقيق المزيد من تطلعاته.

وفى سن مبكر من حياته عمل مجبرا فى محال والده بالصاغة – كباقى أشقائه وأفراد أسرته، ولكن هذا لم يرض أحساسه الذى بدأ يشعر به دفيناً بين جنباته بشوق لتحصيل العلم والميل للكتب.

آثر حبيب سلامةالكتاب .. فضله عن مغريات كثيرة فى سوق الذهب، ترك الصاغة باغضاً مجتمعاً ليتجول فى حى قريب هو الآخر من دائرة بيته، أقصد حى الكتب حيث لصنادقية ودروب الأزهر وقد أمتلأت بكنوز من المعرفة تجسدت كلها فى كتب صفراء تباع للدارسين وراغبى العلم.


1927 : يحصل على شهادة أتمام الدراسة الابتدائية ويعمل فى الحكومة مساعد معمل فى قسم الكيمياء بوزارة الزراعة.

فى عام 1934 يحصل على شهادة أتمام الدراسة الثانوية القسم الثانى (البكالوريا)، ويبدأ شغفه يزداد بالكتب وباللغة الإنجليزية وبالمصطلح العلمى. فى نفس هذا العام ينقل من قسم الكيمياء إلى مجلس مباحث القطن ليعمل سكرتيراً لخبير القطن البريطانى لورانس بولز.

لم يمنعه زواجه عام 1935 من الأستمرار فى تحصيل المعرفة .. لقد حالت الظروف كضعف نظره دون دخوله الجامعة المصرية .. فعاش الشطر الأكبر من حياته محاولا أكتساب المعرفة من أصولها، أملاً أن يحقق أمنيته فى الإلتحاق بالجامعة.

***

من هنا تبدأ قصة الكفاح الطويلة التى تستمر عشرين عاماً .. كانت هذه السنوات الطوال بما فيها من جهد وعرق وتحصيل، بما فيها من رغبة فى العلم، وتربية الأولاد وتحقيق متطلباتهم المتزايدة، والأمل فى المستقبل هى الخلفية الحقيقية فى تفكير هذا الرجل، والنبع الذى يرجع إليه معظم ما أكتسبه من خبرات وما تميز به من صفات.

على طريق المعرفة الحرة عشق حبيب سلامة الكتب، أشترى الثمين منها. ظهرت أهتماماتهفى القراءة بما كان يقتنيه من هذه الكتب فى مجالات الأدب والتاريخ والسير: كشرح المعلقات السبع – قصص الأنبياء – الشوقيات – صهاريج اللؤلؤ – تهذيب التوضيح – رحلة الأندلس – ألف ليلة وليلة، وكتب النقد والتاريخ الحديث، وغيرها من الكتب، التى دأب على قراءتها كما لو كان دارساً لها، وحرص على تجليدها حفاظاً عليها. كانت هذه الكتب هى النواة الأولى لمكتبته الخاصة التى طالما أعتز بها وأعتبرها بديلاً لما يمتلكه باقى أفراد الأسرة من محال تجارية.عام 1936، يلتحق – للعمل مساء – بأحدى المجلات الأسبوعية (الصباح) وكان يرأس تحريرها الأستاذ مصطفى القشاش. وفى عمله الجديد، أظهر قدرة فائقة فى مجال الترجمة، والتى كانت الصحافة تعتمد عليها وقتذاك. شارك زوجته – حكمت منصور – فى تحريرالصفحة النسائية بالصباح، وباب “المرأة” فى (مجلتى) التى كان يصدرها الصاوى. وقد لاقت هذه الصفحات رواجاً لدى القراء، مما شجعه على التفكير فى تأليف كتب فى شئون المرأة، يسد بها ما كانت تعانيه المكتبة العربية من نقص فى هذا المجال.فى نفس العام أقام – بأسم زوجته – أول معهد علمى يعنى بشئون المرأة، ينشر الكتب العلمية عن المرأة الحديثة وباجراء التجارب على مستحضرات التجميل. وأطلق على هذا المعهد أسم (معهد الحورللمرأة الحديثة). وكان مقره بوسط القاهرة. وتلقى هذا المعهد ما يزيد عن خمسة آلاف رسالة من سيدات المجتمع فى مصر والعالم العربى (مازالت كلها موجودة حتى الآن)، ومن هذه الرسائل أستطاع حبيب سلامة أن يكون فكرة صادقة عن أهم مشكلات المرأة والأسرة والمجتمع المصرى. ثم تبلورت هذه الفكرة فى صورة مؤلفات صدرت عن هذا المعهد تعتبر الأولى من نوعها فى العربية، وهى:

1-    الجمال وفن التجميل للمرأة الحديثة الجزء الأول 1937، والجزء الثانى 1938

2-    المؤونة المنزلية – رسالة فى طرق حفظ وتخزين المواد الغذائية 1938.

3-    قاموس الاستشارات للمرأة الحديثة 1938.

لم يكن قد تجاوز بعد الخامسة والعشرين من عمره ليواجه – خلاف عمله الحكومى – هذا الجهد الشاق من تأليف ونشر، وعمل التجارب المعملية لمستحضرات التجميل، وإدارة المعهد ومراسلة دور التجميل ومعاهد المرأة فى سائر أنحاء العالم.

ويمضى حبيب سلامة فى طريق الكفاح والسهر،فيعيش سنوات عشر تالية، مغموراً بين تلال من الكتب ومراجع وقواميس وأطالس، لقد عقد العزم على تجميع المصطلحات العلمية فى مجالات الزراعة وعلوم النبات لعمل معجم يضمهاز وهو الذى شعر بأهمية هذا العمل لما صادفه من صعاب ومشاق فى تعريب المصطلحات العلمية.

تنتهى السنوات العشر وقد تجمعت لديه ثروة من الألفاظ والمصطلاحات الزراعية، جاوز عددها الخمسة آلاف، وضع لها ترجمتها وشرحها وزودها بالصورالإيضاحية، وقد روجعت هذه المصطلاحات بمعرفة عشرة من كبار علماء الزراعة فى بلدنا، أذكر منهم: الدكتور محمد بهجت، الدكتور أحمد المحروقى، الدكتور أحمد حامد النشرتى، الدكتور محمدعبد القادر عاشور، الدكتور توفيق عبد الحى وغيرهمولكل من هؤلاء المراجعين كلمة تقدير لهذا العمل العلمى العظيم.

ولم يكتب لهذا المعجم النشر، رغم المحاولات العديدة التى بذلت لأظهاره للوجود، وقد لا يتسع المجال لشرح قصة هذه المحاولات، والتى أنتهت به لجان المجلس الأعلى للعلوم لأقرار طبعه.

لم تخل هذه السنوات العشر أيضاً من محققات أخرى، فقد أستطاع الألتحاق بجامعة بينيت لدراسة الكيمياء بالمراسلة، كما ألتحق بالدراسة النظامية بالمعهد البريطانى بالقاهرة ودرس فيه لمدة ثلاث سنوات اللغة والصحافة. وفى نهاية الحرب العالمية الثانية ترجم كتاب جوردون ووترفيلد (ماذا حدث لفرنسا؟) وفى عمله المصلحى أختير سكرتيراً مساعداً لمجلس مباحث القطن، فدرس الشئون الإداريةخصوصاً ما يتعلق منها بإدارة المكتبات لوجود مكتبة مجلس مباحث القطن فى نطاق أختصاصه. وفى عام 1946، انتخبته هيئة البحوث الفنية – التى تضم خمسمائة عضو من كبار رجال العلوم فى مصر – سكرتيراً لها.

***

لقد أنقضت سنوات الكفاح الأولى، وها هو الآن فى النصف الثانى من العقد الرابع من عمره، وبين عمل وظيفى شغل وقته الصباحى، وبين مطالب بيته وقد ثقل بالبنين والبنات، يمضى حبيب سلامة بطاقة جديدة، وبأمل كبير فى تحقيق أمنية الشباب ويلتحق – فى وقت واحد – بالجامعة الأمريكية وبجامعة القاهرة، ليحصل عام 1952 على دبلوم التربية وعلم النفس من الجامعة الأمريكية (بتقدير جيد جدا)، وفى عام 1954 على ليسانس الوثائق والمكتبات من جامعة القاهرة. وينال بحثه عن (إنشاء مركز ببليوجرافى فى مصر) درجة الأمتياز.

وفى عام1957  ينال درجة الماجستير (بتقدير جيد جداً)، ويقدم بحثه فى موضوع (الفهرس الصحفى – وما يمكن أن يؤديه للصحافة والتاريخ من خدمات).

ويتقدم بعد ذلك بطلب لتسجيل موضوع رسالة الدكتوراة فى الآدب، وموضوعها “حركة النشرفى الجمهورية العربية المتحدة منذ بداية القرن العشرين حتى عام 1965″، وكانت خطة الدراسة فى موضوع رسالته تتضمن إعداد قائمة بالكتب التى صدرت فى ج.ع.ممنذ بداية عهد الثورة حتى تاريخ إعداد الرسالة.

لم تكن سنوات الدراسة عائقاً له للعمل الإضافى خلاف عمله الحكومى، ففى هذه السنوات أنتدب فى كثير من الجهات وعمل فى أنشطة متعددة. ففى عام 1951 شغل منصب سكرتير جمعية المكتبات المصريةبجدارة كما شهد بذلك أعضاء الجمعية، وفى سنة 1954 أنتدب للعمل فى مصلحة الأستعلامات لوضع الأسس الفنية وتنظيم العمل بإدارة المعلومات، وفى سنة 1956 يحصل على موافقة الجهات الرسمية لأصدار صحيفة علمية متخصصة بأسم “عالم المكتبات”، وفى 1957 ينتدب للعمل فى مكتبة دارأخبار اليوم لينشئ أول فهرس صحفى فى مصر، وفى نفس العام ينتدب فى المجلس الأعلى للعلومللإشراف على نشر كتبه، هذا بخلاف أنشطته الأجتماعية وأشتراكه فى عدد من الجمعيات الخيرية.

***

شهد عام 1958 مولد “عالم المكتبات” ، ففى نهاية هذا العام صدر العدد الأول من هذه الصحيفة، كأول صحيفة عربية فى ميدان الخدمة المكتبية. ولم تكن فكرة عالم المكتبات” عند حبيب سلامة وليدة الأمس القريب، بل ترجع فكرتها لأكثر من عشرين عاماً مضت، حين رسم خطوط العمل لأصدار مجلة تتضمن تسجيلا للنشاط الثقافى والتقدم الفنى فى عالم المطبوعات، وتلخيصاً للكتب الحديثة والمجلات المطبوعات. وقد أختار لها بضعة عناوين منها: عالم المطبوعات – المكتبة الشعبية – المكتبة العامة.


وشهدت “عالم المكتبات” كالعادة، تيارات متباينة تمثلت فى مهاجمة مغرضة أو سلبية مترقبة أو معاونة بناءة صادقة. كان حبيب سلامة يرى فى “عالم المكتبات” رسالة فرضت عليه، وواجباً وطنياً يقدمه لبلاده، فلم يبال بهجوم أو سلبية ضماناً لأستمرار هذه الرسالة. ولم تكن ملكيته لهذه الصحيفة يوماً من الأيام مصدراً للكسب، بل لقد كلفه أستمرار إصدار هذا العمل الكثير من المال والجهد، وهو لم يبخل فى تقديمها أبداً.


سأترك صفحات مجلته “عالم المكتبات” فى سنواتها الأحد عشراً، تروى لكم فصلاً آخر من حياته مع الكفاح، والتى أستمرت منذ 1958 حتى تاريخ وفاته. وليشهد له القارئ مقدار ما بذل من جهد مخلص لتحقيق مستقبل مهنى أفضل، وكيف كانت مواقفه من الصراعات والمحن والتجاربالتى تعرضت لها “عالم المكتبات” أو المهنة المكتبية كلها.

*** 

يبقى فى حديثى عن قصة كفاح حبيب سلامة، جانبان: أولهما عن تدرجه الوظيفى فى العمل الحكومى. فقد عين مديراً لقسم الحصر والتوثيق العلمى بوزارة الزراعة عام 1963، ومديراً للمكتبات الزراعية عام 1968، وأستمر فى وظيفته هذه حتى تاريخ وفاته. وخلال المدة القصيرة التى قضاها فى قسم المكتبات الزراعية، أستطاع أن يقدم الكثير من المشروعات، منها: مشروع حصر الأدب الزراعى منذ بداية القرن العشرين، مشروع حصر البحوث الزراعية فى مجالات التخصص المختلفة، مشروع حصر الدوريات العلمية الموجودة فى مكتبات وزارة الزراعة، مشروع حصر وتقنين رؤوس الموضوعات الزراعية، مشروع أقامة مكتبة قومية للزراعة، مشروع تحويل قسم المكتبات الزراعية إلى مراقبة عامة، يضم إليها قسم الحصر والتوثيق العلمى. وقد أستطاع أن ينجز بعض هذه المشروعات، ولم يوهبه الله عمرا لأستكمال الباقى.


أما الجانب الآخر فيتناول حبيب سلامة كأنسان ووالد مثالى، وقد يعجز قلمى عن إيفاء هذا الرجل حقه فى انسانيته ومثاليته، لكنى أقول أنه قدم لكل من حوله – فى محبة وتواضع كاملين – كل ماملكت يداه وما أحتواه فكره.


عاش لأولاده ولأسرته ولتلاميذه يعطيهم الأمل، يملآهم بالتفاؤل، يعلمهم المعرفة، يغمرهم بالحب ويزودهم بالايمان. كان يردد قول الله تعالى: “ولسوف يعطيك ربك فترضى” وهو مؤمن بقوة الشباب وبقدرته على التطوير والتغيير ويرى فيهم أملا جديداً وطاقة خلاقة.


أن مثاليته مثار إعجاب وتقدير، كان يرى فى الطهر والصدق والحق غاية الإيمان ومنتهى الكمال، ثم كانت مشيئة الله وليس لمشيئته تحويلاً، وكانت سنة الخالق، وليس فى سنة الله تبديلاً، فارقنا فجأة وهو فى أوفى ما يكون صحة ونضارة، ونحن أكثر ما نكون به تعلقاً وأحتياجاً..


نطلب من المولى عز وجل أن يسكنه فسيح جناته جزاء ما قدمت نفس هذا الرجل العظيم، وأن يجزل له الثواب والمغفرة، وأن يلهمنى وأسرته وأبناء مهنته صبراً وسلواناً.


وانا لله وانا إليه راجعون.

إرسال تعليق

المشاركات الشائعة