| عالم المكتبات | قصاقيص |
هذا كان عنوان الرسالة التى قام بأرسالها جورج راسى القاطن برقم 9 شارع الملك ، بحدائق القبة لبريد قراء مجلة مجلتى التى كانت تصدر فى ثلاثينيات القرن الماضى قال فيها “بينما كنت راكباً فى السابعة من مساء أمس الأوتوبيس رقم 14 القادم من حدائق القبة، شاهدت عند ملتقى شارع الملك بشارع نجوم سيدة يبدو عليها الهلع تعدو، وخلفها شاب يتبعها وهو مرتد بدلة الطيران ذات الشارة الرسمية، وما أن وقفت السيارة بالمحطة هناك حتى شاهدنا السيدة وقد صفعت الشاب وصرخت تستغيث بنا، فلما رأى الشاب ذلك ولى هارباً، ثم صعدت السيدة إلى السيارة وعلمنا منها أن الشاب كان يعاكسها لانفرادها بتلك الجهة، فما رأيكم فى ضيعة الأخلاق هذه؟ وفى نفس العدد أجابه المحرر قائلاً “هذه صورة سيدة لحكاية تتجدد أبداً فى كل زمان وكان، هى لا تدل على ضيعة أخلاقنا لأنها حوادث فردية، يستحيل أن نمحو بالكتابة “دون جوان” .. ولكن واجبنا هو تسليح نسائنا بالأخلاق والشجاعة الأدبية حتى يقاومن بقوة هؤلا الجبناء..
هكذا كان يطلق على المتحرشين ومن يقوم بالمعاكسات بالسيدات والبنات، أما الذى كان يقع منهم فى أيدى الأهالى متلبساً بالتحرش أو معاكسة فيكون جزائه الضرب المبرح ثم قص شعره من أهالى الحى، فيكون بذلك عبرة لمن يقوم بمثل عمله، فيخاف ويرتعب من تسول له نفسه التفكير فقط بمعاكسة أى فتاة أو سيدة، وهذا ما سجله الكاتب أسامه أنور عكاشة فى رائعته ليالى الحلمية وأخرجها للدراما إسماعيل عبد الحافظ، والتى صورت التاريخ المصرى الحديث من عصر الملك فاروق وحتى مطلع التسعينات على مدى خمس أجزاء، والمشهد الذى يهمنا هنا هو مشهد على سليم البدرى أبن الباشا المترف والذى قام بمعاكسة قمر السماحى أبنة صاحب القهوة فى حى الحلمية العريق فكانت نتيجة ذلك أنه تم ضربه وحلق رأسه حتى لا يكررها، هذه كانت شهامة ولاد البلد وأخلاقهم التى يرفضون بمقتضاها التعرض لأى فتاة فى الحى، وكان نتيجة ذلك أن أى سيدة أو فتاة كانت تسير بمنتهى الحرية والآمان وهم يرتدون ملابسهم الجميلة بكامل زينتهم دون أى مضايقات تقابلهم حتى إذ ما كانت هذه الملابس قصيرة وفوق الركبة، فلا أحد ينظر أو يطول فى النظر، أو يشعرها بالأحراج … هذه كانت مصر فى الزمن الجميل وحتى آخر السبعينات، وقبل الأنفتاح وسفر الكثير من العمال إلى دول الخليج، وأستيراد ونقل ثقافة البدو والصحراء إلى مصر والتعامل مع المرأة كأنها قطعة أساس فى المنزل، أو أنها مخلوقة لمتعة الرجل ويجب حجبها عن الآخرين، وعدنا لمرحلة النقاش فى “هل الحجاب فرض دينى أم لا”، ولكن بالرغم من ذلك فقد ذادت المعاكسات والتحرش فى المجتمع، فتذكرنا بكلمة راسى “ضيعة الأخلاق”، وفى الوقت الذى كان ينظر فيه الشرق العربى للغرب بأنه رمزاً للإنحلال الأخلاقى، لم يكن بمقدور أى أحد فى الغرب أن يطيل النظر لأى فتاة أو سيدة لأن هذا يعتبر تحرش!
وقد كشفت لنا الدراسة التى أعدتها وحدة الأبحاث والدراسات بمركز مبادرة لدعم قيم التسامح والديمقراطية بأن غالبية الفتيات اللاتى يتعرضن للتحرش الجنسى لا يبلغن عن تلك الوقائع، كما ذكرت أن أكثر من 85% من الإناث اللاتى يتعرضن للتحرش الجنسى لا يقمن بالإبلاغ عن واقعة التحرش بتحرير محاضر رسمية ضد المتحرشين خوفا مما يطلق عليه “العار الاجتماعى” على حد وصف الدراسة، كما أكدت الدراسة على أن الفئة العمرية من الإناث الأكثر تعرض للتحرش هن الإناث اللاتى يتراوح أعمارهن ما بين “18- 25” عام وذلك بنسبة 75%، وأرجعت وحدة الأبحاث فى دراستها عن التحرش بالفتيات سبب تعرضهن لهذا الجرم إلى ضعف الوعى الدينى للمتحرش حيث بلغت نسبتهم 42%، بينما سؤ الأوضاع الاجتماعية رصدت نسبة 37% من الحالات، واختتمت الدراسة مشددة على ضرورة إيجاد حلول قانونية لكى تمكن الضحية من القدرة على الإبلاغ من دون أن يتم التشهير بواقعة التحرش.
أتذكر فى أحد المحاضرات للراحل قداسة البابا شنودة الثالث أرسل له أحد الحضور برسالة يشكو له فيها السيدات والفتيات الذين يحضرن الكنيسة وهم يلبسون ملابس لا تليق فى الكنيسة – حسب ما يظن- ولا يستطيع التركيز فى الصلاة، فيرد عليه البابا قائلاً ولماذا أنت تنظر إليهن، فهل أتيت للصلاة؟ أم أتيت للنظر؟ فالمشكلة لا تكمن فى الملابس ولكن المشكلة تكمن فى النظر، ويذكر لنا قداسة البابا كيف أن هناك قديسين فى التاريخ الكنسى قرروا أن يفقأوا أعينهم التى رأت شئ لا يليق فى مقابل أن لا يفقدوا طهارتهم.
وفى كتاب أين نحن من أخلاق السلف لعبد العزيزالجليل الذى صدر فى 2001 يذكر لنا أن أبن القيم قال “وفى غض البصر عدة فوائد: أحدها تخليص القلب من ألم الحسرة، فأن من أطلق نظره دامت حسرته، فأضر شئ على القلب إرسال البصر، فأنه يريه ما يشتد طلبه ولا صبر له عنه ولا وصول إليه، وذلك غاية ألمه وعذابه”
ولأن المتحرش لا يسمع لأوامر الله عز وجل ونواهيه، وبات لا يخاف إلا من قوة القانون، لهذا يجب على الدولة أن تسن تشريعا خاصا لهذه الجريمة، يعاقب مرتكبيها بشكل سريع بعيدا عن القضايا التي تظل سنوات أمام القضاة في المحاكم، بل يكون العقاب سريعا وعلنيا، حتى يكون التعذير شديدا، والعقوبة قاسية على مرتكب الجريمة، فيكون ذلك رادعا لكل من تسول له نفسه أن يفعل ذلك، إننا بحاجة إلى تكاتف أفراد المجتمع كلهم، ومؤسساته التعليمية والتربوية والدينية ومؤسسات المجتمع المدني والأجهزة الإعلامية، وأجهزة الدولة التنفيذية والتشريعية والقضائية، من أجل مواجهة هذه الجريمة التي تزداد وتستفحل يوما بعد يوما، وإلا سنكون أمام كارثة حقيقية.