بين البحث عن الذات والسفر وعشق الحياة في صالة وصول


بقلم: نادر حبيب

شهدت مكتبه مصر الجديدة العامة اطلاق الكاتبة ماريانا برسوم مجموعتها القصصية الثانية صالة وصول في حفل شهده العديد من محبي الثقافة والادب والمهتمين بهذه النوعية الشيقة من القصص القصيرة.



صالة وصول هي مجموعة قصصية مكونة من تسع قصص قصيره في ١٢٨ صفحه من اصدار كتابي للطباعة والنشر والتوزيع وهي تدور اغلبها حول بعض الجوانب الإنسانية والنفس البشرية التي تحتاج في بعض الاحيان ان تتغلب على المشاكل التي قد تؤثر في حياة الانسان منذ مولده الى ان يكبر ويبدا حياته العملية.

هذه المجموعة القصصية تختلف اختلافا كليا عن المجموعة القصصية الاولى "عالم خاص"، التي تعتمد على مناقشه وعرض المشاكل الشخصية التي تترسب في داخل ومكنون الانسان والتي تؤثر في تركيبته النفسية منذ طفولته، اما هذه المجموعة التي نحن بصددها فتناقش المخاوف التي قد يختلقها الانسان لنفسه ويعرقل بها حياته.

في كل قصة من قصص المجموعة نجد اشكال مختلفة من المخاوف التي قد تعرقل حركه البطل بطريقه او بأخرى، وقد تمنعه من التقدم في حياته بناء على تصورات قد يخلقها لنفسه ولا يستطيع بناء على هذه التصورات ان يهدموا هذه العوائق والسدود التي بناها والتي قد تجعله لا يستطيع ان يستكمل مسيرة حياته بشكل صحيح حتى يأتي الوقت الذي يواجه نفسه اما بمساعدة الاخرين ــ لان الشخص البعيد عن المشكلة يرى حلها جيدا ــ اما ان يستفيق ويقرر ان يغير حياته "فان الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بانفسهم" كما في سوره الرعد الآية ١١.

ماريانا برسوم كاتبه تمتاز بالعديد من المهارات التي اكتسبتها على مدار سنوات عمرها وكأنها تصنع لوحه فنيه من الموزاييك والتي كلما اعتقدت انها أكملتها تكتشف انها لا زالت في حاجة الى إنهائها فتتعلم وتعمل وتحاول البحث في اغوار النفس البشرية أكثر عمقاً، وكأنها غواص يبحث في اسرار المحيطات، لتستخرج منه الكنوز والجواهر التي تكونت عبر العصور لتغير من طبائع البشر وتلقي لنا الضوء على المشاكل والعيوب التي قد تؤثر على النفس البشرية.

في صالة وصول اعتمدت مريانا برسوم على العديد من الابطال،  في كل قصة، ولكل بطل اسم اعتقد ان له علاقة شديده بالقصة، وكأنها قامت بأختيار الاسم عن عمد وكما نقول في مصر "لك نصيب من اسمك"، وبالرغم من اشتراك جميع الابطال في حب السفر والمغامرة، إلا أن لكل منهم قصة وحياة مختلفة، اختارها كل واحد منهم ليعيشها بطريقته.

ففي القصة الاولى الكوخ كانت البطلة شروق تحب السفر والحياة والمغامرة، ولكنها تخاف المجهول وتعشق الوجود داخل منطقه آمنه، كما انها تخاف الغوص فيما هو جديد، فنجدها تخاف السباحة والغوص في البحر لأنها لا ترى ما بداخل البحر وما هو تحت الماء من كائنات بحريه مجهولة بالنسبة لها، ولكنها عندما تعرفت على شاب شعرت معه بالأمان، جعلها تثق بنفسها وبدأت في تعلم السباحة والغوص بعد مرات عديدة وسنين طويله من التدريب لتستطيع في النهاية الغوص ومشاهده ذلك الكون والعالم الرحب على حقيقته، وتكتشف ان عمرها قد مر منه الكثير ولكنها لم تتعرف على كل جوانبه، فالكثير من الناس يخافون خوض غمار الحياه والبقاء في منطقة الراحة الأمنة حتى لا يخسرون او يندمون على خطوه يخطوها للأمام، وهذا بالطبع عكس الطبيعة البشرية، وكما يقول العامة "في الحركه بركه" وبالطبع عندما اكتشفت شروق الحياه الرائعة تحت الماء اشرقت على الجانب المظلم من حياتها ففي النور الحقيقة تظهر وتتضح.

اما في القصة الثانية كريستالة سوارفسكي كانت البطلة ياقوت تضع احكاماً مسبقه عن الشعوب الاخرى حتى جاءتها الفرصة لتتفاعل عن قرب مع هذه الشعوب بمجرد حصولها على منحه لمده سبعه ايام الى اليابان لتشاهد كيف يعيش الاخرون وكيف يتعامل هؤلاء مع المسنين والكبار، وبالرغم من ان ياقوت قد تشعر بالحرج اذا ما اظهرت الطفل الذي بداخلها في بلدها لان الاهل والاصدقاء والجيران والمجتمع كله قد يعتقد انها فقدت عقلها إلا انها وفي بلد اخر ومع اناس اخرين اخرجت ذلك الطفل الذي بداخلها وكأنها كسرت القيود الحديدية التي تحبس نفسها فيه وأستطاعت ان تشعر بالسعادة الحقيقية، وبالرغم من انها تعاملت مع شخصيات تختلف معها دينيا وثقافيا واجتماعيا الا انها تقبلت ذلك كله. واعتقد ان ماريانا كادت ان تسأل البطلة او تسألنا كلنا، هل لو حدث ذلك في مجتمعاتنا هل سنتقبل الاخر كما يتقبل الطفل اللعب مع الاخرين دون البحث في هويته ولونه ودينه وتعليمه؟ وهل نستطيع أن نستمتع بالزهور كما استمتعت ياقوت بزهور الساكورا او زهور الكرز الشهيرة باليابان؟ ولكن كل هذا لم يكن سيحدث الا عندما تقدمت ياقوت بالتطوع في مركز شباب الجزيرة، حيث يجب على الانسان ان يخرج الى العالم لكي يستمتع به، وعلى راي المثل "من قدم السبت سيجد الاحد والاثنين والثلاثاء".

اما الاربع قصص "ارزة لبنان، نهر الاردن، لوحه الموزايكو، مركز يوسف الصديق" فيظهروا مدى تعلق ماريانا برسوم بالتربية الدينية التي حصلت عليها من خلال مدرسة الراهبات التي نشأت بها، و تعلقها بالكنيسة منذ حياتها المبكرة، ففي كل منهم ستشعر بأهميه وجود الله في حياه الانسان لكي ينتصر على الشدائد وتخطي العقبات لكي يعود للإنسان نقاءه الذي خلقه الله عليه،  او كما نقول عاد كطفل في طباعه، ففي الانجيل يوجد آية تقول "ان لم ترجعوا وتصيروا مثل هؤلاء الاولاد فلن تدخلوا ملكوت السماوات" (متى ١٨ : ٣). ولأننا هنا لسنا في مجال لمناقشه الامور والمعتقدات الدينية، إلا انه وبالفعل يشعر الانسان دائما بالهدوء والسكينة عندما يرى كل همومه والآمه وذنوبه في بحر النسيان، عندها فقط يعود كطفل صغير يرمي همومه في احضان والده وينام مطمئن قرير العينين.

وفي قصة ارزة لبنان نجد الفتاة أرزة تتعلم القبول الغير مشروط للآخرين، وتحب وتعمل على نجاح العلاقات بينها وبين الاخرين بشرط المصارحة الحقيقية معهم ولكن في وجود الله، فهذه العلاقات وحتى ان لم تكتمل فأنها تجعلنا نشعر بالآخرين كما ان الاخرين يشعرون بنا، وفي قصه نهر الاردن استعانت مريانا بالبطل يونس الذي اعتقد انها اختارت اسمه ليكون كاسم سيدنا يونس الذي التهمه الحوت او يونان كما هي مدونه القصة بالكتاب المقدس ليغرق في مشاكله وامراضه العويصة وعندما يلجا الى الله ليطهره من امراضه واحزانه ليخرجه الى الشاطئ انسان جديد محبا للأخرين، وبالرغم من ان الحياة قد تكون مليئة بالسدود التي تحيط بنا، الا انه يجب ان يسعد الانسان بمساحه الحرية التي يمتلكها واعطاها له الله ليعيش حياه سعيدة مليئة بالفرح والسعادة دون الم او مرض او هموم.

اما في قصة لوحه الموزايكو فنجد كاترين والتي تعني النقاء والصفاء، تعلمنا انه يجب علينا العيش في نقاء وصفاء ومحاوله مساعدة الاخرين، الا انه لا يجب ان يكون ذلك على حساب حياتنا وراحتنا، فالحكمة تتطلب الا نرضي الآخرين على حساب انفسنا، وكذلك تنبهنا كاترين ان هناك العديد من الشخصيات من حولنا قد تختلف طريقة تعاملهم معنا حسب توجهاتهم وأهدافهم، ولذلك يجب ان ننتبه الى هؤلاء البشر ولا ننخدع بهم فهناك الشخص الذي يمكن ان نحبه وننخدع به ولكنه في الحقيقة هو لا يهتم لأمرنا، ولكن يحب نفسه بالاكثر، وهناك من يراقبنا من بعيد وحتى لو صارحنا بمشاعره ونراه مناسباً، قد لا يوافق المجتمع على هذه العلاقة لأسباب اجتماعيه او دينيه وهذا بالطبع مهم جدا، فالإنسان لا يعيش بمفرده، وهناك من يراقب من بعيد ويتحين الفرصة لإظهار مشاعره الحقيقية في الوقت المناسب ويكون هو السند والحب الحقيقي.

وفي قصة مركز يوسف الصديق، نجد نعمه البطلة الطيبة التي تبحث عن نفسها وتريد ان تكتشف ذاتها وتحاول بكل جهد ويقين ان تغير من نفسها ومن حياتها بالرغم من ان المجتمع كله قد يرفض ما تقوم به، ولكنها كانت ترى نفسها كالطين التي يشكلها الفخاري ليصنع منها انسان جديد شكله حلو يستمتع الجميع بها فتدخل البهجة والفرح في قلوب من حولها، وكما تقول الترنيمة "انا كالخزف بين يديك عود واصنعني وعاء اخر مثل ما يحسن في عينيك، وهذا الدعاء الذي يطلبه الشخص البسيط من الله، لكي يستطيع أن يتخطي كل صعابه وألامه وأمراضه.

وفي قصة جبل السكر نجد كارمن تحاول ان تكسر معتقداتها وثقافتها الخاطئة في نظره المجتمع لنوع عمل والدها التي تربت عليها، والتي ينظر المجتمع لهذه الوظيفة كعمل متدني فتجعل من يرتبط بهذا العمل يشعر بالدونية والمهانة. واعتقد ان ماريانا كانت تتمنى ان تطلق العنان لقلمها لتسجل لنا  معاناة الانسان من نظرة المجتمع لبعض الاعمال البسيطة في مجتمعات العالم الثالث، ولكن هي لم تفعل ذلك الا بكلمات بسيطة وباحترافية عالية، لتترك لنا مساحه، ليقرر من خلالها القارئ بنفسه ويتخيل ما يعانيه هؤلاء منكسري القلوب في مجتمعاتهم.

وفي قصة صاله وصول تُكسْر مريانا العادات والتقاليد لمجتمعاتنا في العصر الحديث مره اخرى وتجعل بطلة القصة وصديقتها يسافرون لخارج البلاد بعيدا عن الاهل والوطن لتزور خمس دول مختلفة مره واحده، وتتعلم وتناقش وتحاور الثقافات المختلفة، بل وايضا تحب شاب من دولة اخرى يختلف معها، فتقبله وتحلم بعيشة مختلفة، وبالرغم من فرح الأهل بذلك وموافقتهم عليه، إلا ان العريس لم يحضر لتعود وتترك لنا الكاتبة فرصة للقارئ أن يعيش مع البطلة حاله من الصراع الفريد ومحاوله تخيل ما الذي منع العريس المزعوم من العودة والزواج بفريدة، فكما نقول "ليس كل ما يتمناه المرء يدركه" وهل ستستطيع فريدة من مرور هذه الازمه ام لا؟

لسه الاغاني ممكنة، هذه ليست الأغنية الشهيرة في فيلم المصير للفنان محمد منير، ولكنها القصة الأخيرة من المجموعة القصصية لماريانا برسوم صاله وصول، ومن خلال هذه القصة نجد الفتاة ريتا والتي تعني اللؤلؤة، وبعد ان حققت الكثير من الاحلام التي أختطتها لنفسها، قد إنتابها خوف شديد خلقته في مخيلتها جعلها عاجزه عن استكمال حلمها في الغناء والرقص على اكبر المسارح العالمية، ولكن بوجود صديقة مخلصه استطاعت ان تعبر هذه الازمه، ولكن عبور الازمة لا يمكن ان يتم دون ان يكون للانسان دور حقيقي مع نفسه، فقد شاهدنا ريتا ــ وحتى بعد ان اعتقدت انها تم شفائها نهائيا  ــ على المسرح وقد اختنق صوتها ولم يخرج بالشكل الطبيعي، فوجدت الجمهور يصرخ لها قائلا "علي صوتك بالغنى لسه الاغاني ممكنه"، لتترك لنا ماريانا للمرة الثالثة نهاية مفتوحه كما في نهاية الافلام، ونفكر هل استطاعت ريتا ان تعبر هذه الازمة ويخرج صوتها للجمهور الذي أحبها، أم انها أستمرت في عزلتها وافكارها التي نسجتها حول نفسها، وكنا نتمنى ان تكون نهاية القصة الأخيرة كنهاية قصه يونس في نهر الاردن عندما قال له الطبيب: "أذهب الى منزلك الان، فقد برئت!

إرسال تعليق

أحدث أقدم

المشاركات الشائعة