| عالم المكتبات | حبيب سلامة |
بقلم: محمد عبد الغنى حسن*
ترجع معرفتى معرفتى بالأستاذ المكتبى الدءوب حبيب سلامة – رحمه الله – إلى أخريات سنة 1958 وأوائل سنة 1959، وهو العام الذى شهد مولد مجلة “عالم المكتبات” فى حقل كاد يكون مجدباً من المجلات التى تخدم الكتاب العربى والقارئ العربى. وأقول (كاد) لأن حقل المعرفة فى العالم العربى لم يكن مجدباً على أطلاقه ..
فقد كانت هناك مجلة “بريد المطبوعات الحديثة” التى كان من حظى أن أتولى أصدارها ورياسة تحريرها، وكانت تستقبل من عمرها العام الثالث، حين كانت مجلة “عالم المكتبات” تستهل حياتها فى الخدمة المكتبية بأول عدد من أعدادها …
ومنذ ذلك الحين لم أشعر أنا بالغربة والوحدة فى دنيا خدمة الكتاب، ولم تشعر مجلة “بريد المطبوعات الحديثة” بأنها غريبة أو وحيدة، فقد وجدت لها فة الميدان الرحيب زميلة كريمة، توسع آفاق رسالتها إلى أبعد من خدمة الكتاب والقارئ والناشر، فتخدم المكتبيين وأمناء المكتبات والوثائقيينوأدلاء المعرفة خدمة نوهت بها وأشارت إليها مجلة اليونسكو للمكتبات قائلة: “أن مجلة عالم المكتبات التى تأسست عام 1958 – ويصدرها حبيب سلامة من القاهرة – مازالت المجلة المهنية الوحيدة فى المنطقة. هذه الحقيقة – بالأضافة إلى وجود دراسة جامعية فى الوثائق والمكتبات – توضح سبب التقدم البارز للجمهورية العربية المتحدة فى مجال المكتبات عن باقى بلاد المنطقة العربية …”
والواقع أن مجلة “عالم المكتبات” قد واتاها الحظ من حيث طول عمرها – نسبياً – وتنوعمجالات رسالتها وتحريرها، وأتساع آماد الخدمات التى كرست نفسها لها. فقد سبقتها فى الوجود مجلة “الناشر المصرى” التى أصدرها الأتحاد المصرى العام لدور النشر والمكتبات فى يناير سنة 1952، وقد شرفنى الأتحاد – نضر الله عهده – برياسة تحريرها .. وكانت أول حدث فى عالم الكتب والنشر والتعريف الدقيق بالمصنفات، وعقد الصلات بين القارئ والمؤلف والناشر، وكنت سعيداً بعملى هذا، فوق عملى بالأستاذية فى كلية الشرطة .. ولكن“الناشر المصرى” لم تعش أكثر من عام وبعض عام، أصدرت من خلالها عددين لا غير .. وكانت رسالة “الناشر المصرى” خدمة الكتاب العربى على أختلاف مصادره، فلم تنحصر بذلك فى نطاق ناشر بعينه.
وفى يناير سنة 1955 أصدرت دار المعارف مجلة “بريد الكتاب” لخدمة كتابها فحسب، ولخدمة قرائها وعملائها … وكان من حظى _ أيضاً – أن أتولى رياسة تحريرها للعامين الأثنين اللذين كانا عمرها القصير … إلى أن صدرت مجلة “بريد المطبوعات الحديثة” فى أول يناير سنة 1957، وأسعدنى الحظ – مرة أخرى – برياسة تحريرها. وأتسع صدرها للناشرين فى مصر وفى غير مصر، وللكتاب العربى فى مصر وفى غير مصر، وعن طريقها ألتقيت بالفقيد العزيز حبيب سلامة، جمعتنا مقتضيات المهنة وتكاليفها، فكان يزورنى فى مكتبى على النيل، ويحدثنى بآماله العريضة فى خدمة الكتاب والمكتبيين، ويتلقى إنتاج “مؤسسة المطبوعات” فيفسح له من صدر مجلته، ويعلن عنه، ويعرف به. والود يزداد بيننا تمكيناً. فأعرفالرجل عن قرب، وتزداد معرفتى به، وتقديرى له، وألمح فيه طاقات حيوية تريد أن تأخذ سبيلها إلى الأنطلاق …
وعادت مجلة “بريد الكتاب” ثانية فى 1963، ولكن فى هذه المرة لحساب “الدار القومية للطباعة والنشر” وتدفع بى الأقدار ثانية إلى رياسة تحريرها على مستوى القطاع العام، لا مستوى القطاع الخاص .. وإذا بى أجد مجلة “عالم المكتبات” وقد قطعت من عمرها خمس سنوات، وإذا بى أجد المرحوم حبيب سلامة فى دورة جديدة من العمر … وإذا بنشاطه وقد تزايد مع مضى السنين، على عكس الناس حينما ينتقص مر السنين من نشاطهم، ويحد من جلادهم … وإذا بى ألقى الأستاذ “حبيباً” وقد تفتحت أمامه ميادين جديدة فى سبيل رسالته، وإذا به يصدر فى ديسمبر 1963 العدد السادس من السنة الخامسة مشتملاً – أو قاصراً – على فهرس جامع للمقالات والبحوث التى نشرت فى “عالم المكتبات” من سنة 1958 إلى سنة 1963.
وفى سنة 1963 بالذات، بل فى شهر يونيو منها على وجه التحديد، أجد فى سوق المكتبات مجلة جديدة تستهل مولدها بأسم “مجلة المكتبة العربية“، وأرى رياسة تحريرها يتولاها رجل مكتبى نشيط، حاد الذهن، جم النشاط، رحيب الآفاق، هو الدكتور محمد الشنيطى – الذى صار فيما بعد وكيلاً لوزارة الثقافة لشئون المكتبات والوثائق – وأجد مجلته تؤنس بوجودها المناسب شقيقتيها : ” مجلة بريد الكتاب” ومجلة “عالم المكتبات” وتكون معهما ثالوثاً مقدساً فى خدمة الكتاب والمكتبات.
وتجمعنى بعض مناسبات العمل بالأستاذ حبيب سلامة ، وتنساب بينه وبينى الأحاديث عن المجلات المتخصصة فى شئون الكتب والمكتبات، فأراه يعرب عن فرحه بظهور كل مجلة جديدة فى هذا الميدان، وأراه تتسع آفاق آماله ليرى البلاد العربية مملوءة بهذا النوع من المجلات … ويزداد منذ ذلك الحين تحمسه وتفاؤله لرسالته، فنراه يتحدث عن الإيجابية فى إدارة مؤسسات النشر، وعن دعم العمل المكتبى وعن تطور الأنظمة الفنية للمكتبات، وعن ضرورة مواجهة المجتمع الجديد بحاجاته ومتطلباته، ومشكلاته. ونراه يتحمس لتكوين أتحاد الناشرين العرب – كما تحمسنا نحن لأتحاد الناشرين المصريين سنة 1952. ونراه – أكثر من هذا – ينطلق من الشرق إلى الغرب فى خطوة ثابتة رصينة فى صيف سنة 1966، فيرحل هو، أو ترحل مجلة “عالم المكتبات” وهو معها، إلى باريس، ويلتقى بشخصيات مكتبية هامة كالمسيو إينيان دينيرى المدير العام للمكتبة الأهلية بمدينة النور، ويأخذ منه حديثاً لعالم المكتبات، ويلتقى بالسفير المصرى فى باريس، فيدور الحديث بينهما حول الكتب والخدمة المكتبية والنشر. وينتقل من باريس إلى روما مدعواً من الأستاذ أحمد نجيب هاشم سفير مصر فى إيطاليا، ويحرص على لقاء كاتبة إيطالية شهيرة هى السيدة “زهرة الجارديا” مؤلفة كتاب “الطريق إلى دمشق”
ويعود حبيب سلامة من رحلته إلى أوربا وأمريكا مزوداً بحصيلة جديدة لمشروعاته الحية التى لا تتوقف فى عالم المكتبات، ونراه يفرح بمعارض الكتاب العربى التى يجد فيها “الكتاب” مجالاً واسعاً لتقديمه إلى القارئ. ويقام فى بيروت سنة 1966 المعرض الثانى عشر للكتاب العربى، فنرى مجلة عالم المكتبات – أو بعبارة أصح نرى حبيب سلامة يصدر فى تلك المناسبة عدداً خاصاً عن “الكتاب العربى فى الجمهورية العربية المتحدة“، ولا تكاد تنتهى سنة 1966 حتى تقيم عالم المكتبات معرضاً، هو معرضها الأول – عن “الخدمات المكتبية وأتجاهات النشر“. والصفة هنا بالأولوية للمعرض تحمل أنعقاد أرادة حبيب سلامة على أن يكون وراء هذا المعرض “المعرض الأول” ثان، وثالث، ورابع إلى ما شاء الله …
ولقد كان من حظى أن أشهد مراحل تكوين هذا المعرض فى مبنى عالم المكتبات، بشارع الجلاء، وأن أرى حبيب سلامة وهو ينسق الرفوف والحاملات ومجموعات الكتب لمختلف دور النشر، ويروح ويغدو بين غرف المعرض فى حركة دائبة لا تمل، حتى أشفقت عليه أن يؤثر الجهد المضنى فى صحته، ولكنه كان سعيداً، مغموراً فى نشوات العمل، لا يفكر فى صحة، ولا يخطر على باله الخوف من أى جهد مهما عظم … وقضيت ساعات أشاهد فيها هذه النحلة الدائبة عن كثب، وأتمتع بحديث حبيب سلامة وهو ينقلنى من كتاب عربى إلى آخر أجنبى، وكأنه لا يمل من طول الحديث عن الكتب، لأنه يحبها، ومن أحب الشئ حابى، كما يقول شاعرنا أحمد شوقى … وخرجت مزوداً فى ذلك اليوم السابق على أفتتاح المعرض بذخيرة طيبة من النشرات، وبعض أعداد فاتتنى من مجلة عالم المكتبات وفاتنى الحصول عليها…
ومنذ ذلك الحين لم ألق حبيب سلامة لقاء فى عمل، ولكننى لقيته لقاء عابراً سريعاً فى ضاحية من ضواحى القاهرة منذ عامين، ودارت بيننا – ونحن وقوف – أحاديث ممتعة عن الكتب والمكتبات والمكتبيين … وكنت فى ذلك الحين قد تحللت من قيود العمل الرسمى فى ميدان النشر والفكر والثقافة، ولكننى على الرغم من ذلك – لم أملك نفسى من الحديث مع حبيب سلامة المكتبى الدءوب، فى شئون الكتب، منقاداً بطبعى مع الفطرة التى عبر عنها شاعرنا القديم بقوله:
وذو الشوق القديم وأن تسلى مشوق حين يلقى العاشقينا
وكان ذلك اللقاء الشخصى آخر ما بينى وبينحبيب سلامة: فقد شغلته الحياة عنى، وشغلتنىالحياة عنه، إلى أن فوجئت بنعيه فى يوم من أيام الأسبوع الأول من شهر سبتمبر 1969، فلم تكد عينى تصدق الخبر منذ وقعت عليه فى صفحة النعى بصحيفة الأهرام
لقد كان حبيب سلامة رجل الكتاب بمعناه الصحيح، وكأنما خالط حب الكتاب والمكتبات لحمه ودمه، وتجلى ذلك فى ميوله وأتجاهاته فى الترجمة والتأليف والكتابة … فهو لا يختار من الكتب الأجنبية للترجمة إلا ما كان متصلاً بالكتاب والمكتبات أو دارا فى فلكهما … ولا يختار لأفتتاحياته الواعية فى مجلة عالم الكتاب إلا كل موضوع يتصل بالكتاب والمكتبة، ولقد عرفت أناساً من أخواننا الأدباء يتخصصون فى موضوعات بذاتها تجرى مع هوى نفوسهم، فهذا يكتب أو يترجم فى التاريخ، وذلك فى سير الرجال وتراجمهم، وذاك فى القصص العاطفى، وذلك فى موضوعات الريف. ولكن حبيب سلامة لا يترجم من الكتب إلا ما كان موضوعه الكتاب … فهو يترجم كتاب “المكتبة العامة وأثرها فى حياة الشعب” للكاتبة أرنستين روز، وهو يترجم كتاب “نشر الكتب فن” لتشاندلر ب. جرانيس، ويقدمه فى أكثر من خمسمائة صفحة. وهو يترجم كتاب “فن أختيار الكتب للمكتبات” لكارتر وبونك فى قرابة ستين وثلاثمائة صفحة …
وقد أعان حبيب سلامة على التوفيق فى رسالته للخدمة المكتبية عوامل لم تتح لكثيرين غيره، فهو معنى بالتنظيم والترتيب والتبويب والتنسيقوالفهرسة، وهذه العناية هى ثمرة عقليته المنظمة، وذهنيته المرتبة، وكأنما يريد لنفسه التعب والضنى من حيث يرتاح الآخرون، فهو يتعب نفسه فى التنظيم والترتيب والفهرسة لكى يضمن لقارئه الراحة والتيسير، وبين أيدينا على ذلك ألف دليل ودليل … ففى مؤتمر الكتاب العربى الذى أنعقد بالقاهرة فى فبراير سنة 1967 يصدر عدداً خاصاً من مجلة عالم المكتبات عن مناقشات المؤتمر، ويسجل الأحاديثوالمناقشات فى أمانة ودقة بالغتين … ولو أنه أكتفى بهذا متفضلاً غير مقصر، ومتطاولاً فى الفضل غير عاجز … ولكنه زاد فصنع فهرساً هجائياً بأسماء المتحدثين والمتناقشين فى المؤتمر، والصفحات التى وردت فيها أحاديثهم، ثم زاد الخير ضعفاً، فصنع فهرساً موضوعياً مبوباً بالموضوعات والمسائل التى عولجت فى المؤتمر أو من جهود وأوقات ومشقات، ولكنه فعله راضياً سعيداً لأنه يحب راحة قارءه. ولو أنه جرد العدد من هذه الفهارس لما لامه لائم …
وفى أواخر سنة 1967 أصدر حبيب سلامة عدداًخاصاً عن “المكتبة القانونية فى عشر سنوات” من 1958 إلى 1967، فكانت بذلك أول قائمة ببليوجرافية متخصصة لكتب القانون، والفقه القانونى، والتشريع والفقه الإسلامى. ويشهد اللهكم خدم المرحوم حبيب سلامة رجال القانون والفقهوالحقوق بهذه القائمة التى كنا نود لو أطال الله عمرصاحبها ليصنع مثلها فى ميادين مختلفة من العلموالمعرفة كالآداب، والشعر، والتاريخ والأقتصاد، والجغرافية، والسير والتراجم وغيرها، فما كان هناك ولا هنا أقدر من حبيب سلامة على أتمام مثل هذه القوائم الببليوجرافية المفيدة…
ولا أدل على حب فقيدنا حبيب سلامة لعمل الفهارس المنظمة، من ذلك الفهرس الجامع للمقالات والبحوث التى نشرت فى عالم المكتبات منذ سمة 1959 إلى 1963. لقد صدر به عدداً خاصاً للمجلة بتاريخ نوفمبر – ديسمبر سنة 1963.
ولقد جمع حبيب سلامة إلى حب التنظيم والترتيب البراعة فى فن الدعاية والإعلان، فالكتاب بين يديه سلعة تجد من يحسن الدعاية لها، والتعريف بها، ولعله أفاد ذلك من دراسته للصحافة وحصوله على درجة الماجستير فيها، وأسلوبه فى الدعاية جذاب ناعم، غبر ثقيل ولا بغيض إلى القارئ، فهو يجد إلى مسارب الحس عند قارئه ألف سبيل ..من غير تثقيل ولا تطفيل، ففى خلال رحلته إلى الولايات المتحدة فى ربيع سنة 1966 ترى عينه تقع على كل ما يتصل بالكتاب والمكتبة، حتى سيارة الكتب – أو كما نسميها المكتبة المتنقلة – نراه يلحظها وهى سائرة فى يوم أو فى مكان لا حياة فيه على الإطلاق، والجو ممطر لا يسمح لامرئ بالخروج ليستعير كتاباً من سيارة الكتب … ونرى لحبيب هنا لمحة خفيفة لطيفة، ونرى أنه يحول نفسه إلبى أمين للمكتبة المتنقلة بدلاً من أمينها الأمريكى، لكى يحدث سيدة، أرتادت السيارةفى هذه اللحظة، عن العرب وسحر الشرق وجماله وأساطيره !…
رحم الله حبيب سلامة لقد كان بالأمس القريب يحدثنا عن الكتب والمكتبات وأتحاد الناشرين، ومعارض الكتب، والمكتبيين، فشاء الله أن نتحدث عنه اليوم أحسن الأحاديث، ونحكى عنه اليوم أطيب الذكريات. وما أصدق شاعرنا حين يقول:
وانما المرء حديث بعده فكن حديثاً حسناً لمن وعى
* المصدر: مجلة عالم المكتبات، العدد (5، 6) السنة الحادية عشر 1969. – بمناسبة تأبين حبيب سلامة.
*محمد عبد الغنى حسن