| عالم المكتبات | قصاقيص |
![]() |
ماما ليليان تراشر مع أبنائها |
أتذكر تلك الزيارة التى قمت بها منذ ما يقرب من 25 سنة مضت إلى إحدى الملاجئ فى صعيد مصر، وبالرغم من كونه محاط بقرى فقيرة "كما هو الحال فى قرى الصعيد الفقيرة" إلا أنه بمجرد دخولك إلى الملجأ تشعر وكأنك فى أغنى بقعة على وجه الأرض، أنه ملجأ ليليان تراشر فى مدينة آسيوط، لم يمحو أسم ليليان تراشر من ذاكرتى، وسعدت جدا بحصولى على نسخة من مذكراتها والتى كتبتها فى يناير 1960 بعد مرور 50 عاماً لتشكر فيه المصريين على وقوفها بجانبها فى إنشاء أول ملجأ للأطفال فى مصر.
ولدت ليليان في ولاية فلوريدا الأمريكية في 27 سبتمبر 1887 ، وقد نشأت في عائلة محافظة تميل للتقاليد، وفي طفولتها وصباها عرفت الكتاب المقدس، الذي وصفته مرة بأنه " أعظم كتاب في التاريخ"، وتذكرت قائلة "أنا بدأت أقرأ فيه لأول مرة، وسرعان ما جذبتني كلمة الله الثمينة. إنني لن أنسى التأثير الرائع لقراءة الكتاب المقدس لأول مرة في حياتي". لقد رأته لأول مرة عند إحدى صديقاتها، فطلبت من أمها أن تشتريه لها في الحال دون الاِنتظار لعيد ميلادها كما وعدتها أمها.
وبعد ذلك بسنوات، قابلت السيدة ماتى بيري التي كانت تدير ملجأً للأيتام في مكان قريب منها فى مارليون فى كارولينا بأمريكا، ودعتها لكى تأتي للعمل بالملجأ، ولم تكن ليليان تدرك أن هذا المكان هو الذي ستتدرب فيه على عملها لرعية الايتام طوال أيام حياتها، حيث بدأت بالعمل في الخياطة والمطبخ والعناية بالأطفال المولودين حديثاً، والعناية بأعداد كبيرة من الأطفال اليتامى، وتعلمت كيف تتكّل على الله لسد احتياجات الحياة اليومية، ولم يكن لديها أى أموال بالمرة ولم يرسل لها أى أحدٌ شيئاً، ولم تكتب مطلقاً للآخرين عن احتياجاتها، حتى أن أحذيتها تمزقت ولم يكن لديها مال لشراء زوج جديد، وأرسل إليها أحدهم صندوقاً من ثياب قديمة، وكان فيها زوج أحذية رجالي، فلبسته ليليان دون مبالاة.
وكانت تصلي من أجل أن يدعوها الله للعمل بين الفقراء، ولكن في تلك الأثناء خُطبت لتتزوج، وقبل يوم زفافها بعشرة أيام رافقت السيدة بيري لتسمع أحد الوعاظ وكان من الهند، وقد تأثرت بشدة من عظتة التى كانت بمثابة رسالة لها من السماء، حتى أنها بكت في أثناء الصلاة من قلبها، وظلت تبكي طوال الطريق إلى الملجأ بل وطول الليل، حتى أن السيدة بيري أرادت أن تعرف سبباً لذلك، فأوضحت لها ليليان أنه ليس هناك شيء سوى أنها قد خُطبت لتتزوج أفضل شاب في العالم، وأنها لا تستطيع أن تتزوجه، فقد دعاها الله لأفريقيا ويجب أن تطيع، وقد عرضت عليه أن يرافقها للعمل فى أفريقيا، ولكنها أبى ورفض، وعند ذلك تركته، إذ يجب أن تضع الله أولاً وقبل أى أحد.
وإذ لم تكن تعرف إلا القليل عن المكان الذي ستذهب إليه، جمعت ممتلكاتها القليلة والقليل من الدولارات- والتي كانت كل ما تملك، وذهبت إلى مؤتمر في بتسبرج لإعداد المرسلين في بنسلفانيا، وكانت متأكدة من أن الله سيتولى أمرها ويسدد أعوازها كما فعل على الدوام من قبل. وقد فعل ذلك حقاً، فبعد وقت قصير وصلت إلى بروكلين في نيويورك في طريقها إلى مصر، وهناك قابلت القس برلسفورد الذى دعاها للعمل معه فى أسيوط. وقد لحقت بها أختها “جيني” حتى لا تتركها بمفردها فى بلد غريب، وأقنعها أحدهم بأن تطلب وعداً من الرب ففتحت ليليان كتابها المقدس وقرأت الآية التى تقول "إني لقد رأيت مشقة شعبي الذين في مصر وسمعت أنينهم ونزلت لأنقذهم، فهلم الآن أرسلك إلى مصر".
نزلت الأختان في الإسكندرية، وسافرتا بالقطار إلى القاهرة، ثم بالمركب على نهر النيل إلى أسيوط والتى وصلتها فى 26 أكتوبر 1910، وقصدت جمعية القس برلسفورد "الكنيسة الرسولية" ورأت أنه أجمل مكان في العالم، وبدأت بتعلم اللغة العربية لكى تستطيع العيش على أرض مصر وتتعامل مع أهلها من السكان المحليين، ولم تلبث أن واجهت اِحتياجات الأطفال الفقراء الذين لا مأوى لهم، المنبوذين الذين يرتدون الثياب البالية.
وفي منتصف إحدى الليالي وبعد مرور ثلاثة شهور فقط من وصولها، طرق أحد الرجال بابها، وكان يبحث عن شخص يأتي ليصلي مع امرأة فقيرة تشرف على الموت، فأخذت ليليان معها من يترجم لها "فلم تكن قد أتقنت العربية بعد" ورافقت الرجل دون أن تكون لديها أية فكرة عما ستجده هناك، وقد ارتعبت عندما اكتشفت وجود طفلة عمرها ثلاثة أشهر تحاول أن تشرب لبناً نتناَ أخضر اللون، من إناء متسخ من الصفيح، وقد التصقت ثيابها بجسدها وبدا أنها لم تتغير منذ مولدها، ورائحتها النتنة لا تطاق.وعند وصول ليليان، أسلمت المرأة روحها وسلم الطفل إلى ليليان، التي اصطحبت الطفلة معها إلى بيت الجمعية، وتبادلت الأختان أرجحة الطفلة ومحاولة أعطائها بعض اللبن، ولقد حاولت الأختان أن تعتنيا بالصغيرة طوال إثني عشر يوماً وليلة، والطفلة تعوي باستمرار، وكان مما لا يصدق أن طفلة سيئة التغذية، تستطيع أن تصرخ صراخاً عالياً بهذه الصورة. وسرعان ما فرغ صبر الخادمات المشاركات ببيت، وأمر رئيس الإرسالية برلسفورد ليليان أن تعيد الطفلة إلى مكانها.
ولكن إلى من تعيد ليليان الطفلة؟ لقد جاءت لكي تعمل حسب نظام الإرسالية المعهود الذي كان يحتم على المرأة غير المتزوجة أن تخضع لقادتها من الرجال، فالمرسل المحنك يعرف الأفضل، فقررت ليليان أن تعيش بمفردها لرعاية الطفل وأن تأخذ الطفلة يوم 10 فبراير 1911 لتقيم معها. وقد تعجب رئيسها كيف يمكنها أن تقوم بذلك بمفردها "امرأة أمريكية غير متزوجة في عالم عربي" لقد شعر بأنها إما أن تُقتل أو تتضور جوعاً حتى الموت، ولكنها وضعت كل ثقتها في الله، فقد عرفت ليليان أنها لن تكون وحيدة، لأن الله سيكون معها. واستطاعت بالستين دولاراً التي بقيت معها من مصاريف السفر، فأستأجرت بيتاً صغيراً، واشترت موقد كيروسين للطبخ، وبعض الأثاث. ولم يعد معها أي نقود، وقد انتهت معونة مجلس إرساليتها ولكن كانت لها ثقة في الله، وتتذكر أنه كان أول تبرع للمؤسسة التى أنشأتها مبلغ سبعة قروش قدمها لها ساعى تلغراف، وبعد أن عادت أختها إلى لونج بيتش في كاليفورنيا "ولم ترجع إلى مصر على مدى سنوات عديدة" وحيث أنه لم يكن لليليان مورد رزق، ابتدأت تستعطي. وكان أول عطاء لها نحو ثلث دولار، كان يكفي لشراء طعام لذلك اليوم
وتتذكر ليليان هذه الفترة فتقول "فى البداية كان من الصعب أن يقبل الأيتام إلينا حيث أن الناس لم يسبق يشجعوا شيئاً من هذا القبيل، أن يرغب شخص فى إيواء الأطفال وغذائهم وكسائهم وتعليمهم، ويعتنى بهم بلا مقابل وبدون أجر، وأعتقدوا أنه لابد أن يكون فى الأمر سر خفى وراء كل هذا، ربما أعتقدوا بأننى سأخطف الأطفال إلى أمريكا" تجولت ليليان على حمار لتستعطي مالاً، وفي أحيان كثيرة كانوا يعطونها أطفالاً عوضاً عن المال، وكان رجال الحكومة يندهشون لأن أحداً لم يزعجها أو يؤذيها. وقد وبخها حاكم المدينة لركوبها الحمار، لأنه أمر محتقر لشابة جميلة، فقالت له ليليان إن الحمار قد ركبته أم ربها، فهو بكل تأكيد يصلح لها أيضاً، فأصبحت تُعرف باسم “السيدة راكبة الحمار “، ومراراً كثيرة في ترحالها، لم تكن تستطيع العودة إلى الملجأ في الليل، وإذا لم يقدم لها أحد مكاناً مأموناً للمبيت، كانت تذهب إلى أقرب مركز للبوليس وتصرف الليل مع حمارها في السجن، ولم يكن المصريون يصدقون مدى عزيمتها وكيف يمكن لامرأة أمريكية أن تتحمل الحرارة.
وكانت تأتي لها فى بعض الأحيان معونات من كنيستها، كميات من الملابس، وأحياناً بعض الأموال، ولكن ليليان ظلت تعتمد على كرم جيرانها المصريين، فكانت تشكر لأجل كل دولار ولأجل كل ما يُقدَّم لها، وكانت ترد على كل خطاب يصلها، في نفس اليوم.
وفي1916 كان قد وصل عدد الأطفال إلى خمسون طفلاً في الملجأ. وكان عليها أن تبني مكاناً، وقد ساعدها الأطفال في البناء، بل كانوا يقومون بعمل الطوب، وبدأت في تعليمهم الحرف إذ كان يلزم إعدادهم للحياة ومع حلول عام 1923 كانت تأوي ثلثمائة يتيم وأرملة، ولكنها لم تكن قد حققت محصولاً روحياً كبيراً، ولكن في 1927 شهدت النهضة التي صلت من أجلها مدة طويلة، وفي أثناء ذلك ظلت تخيط وتغسل وتطعم وتبني، وكانت على الدوام تتكل على الله في كل شيء.
وفي إحدى الليالي عندما قام المصريون ضد الحكام البريطانيين، خلال الحرب العالمية الثانية، كان عليها أن تنقل أطفالها من الملجأ إلى مكان آمن، وعندما عدت الرؤوس، اكتشفت غياب طفلين، ورغم احتجاجات العاملات معها زحفت عائدة إلى الملجأ ووجدت الطفلين المرتعبين، فاحتضنتهما تحت ذراعيها، كل منهما تحت ذراع، وعادت ببطء إلى ذلك المكان الآمن، وفجأة سد الثائرون الطريق أمامها، فكان عليها أن تهبط إلى خندق، حيث وجدت جندياً مائتاً، فكبتت رعبها لأن أي صرخة كان يمكن أن تؤدي إلى موتها وموت الطفلين، وبدأ الجنود يقتربون أكثر فأكثر إلى أن سار أحد الجنود على ليليان، فالأرجح أنه ظنها مائتة، وظل يمشي، وليليان تنظر وهي ترنم بهدوء “يسوع يحبني” في آذان الأطفال، وعندما انتهى الخطر، زحفت إلى الأمان مع الآخرين والأطفال.
وحكت ليليان لكل جيرانها المصريين عن قوة الله، وشيئاً فشيئاً اكتسبت ثقة الكنائس المصرية و الأمريكية، ولكن عندما حل الكساد، هبطت المعونات الأمريكية المالية إلى لا شيء عملياً. وكان قد أصبح لديها عدد كبير من الأطفال، فلم يكن يمكنها أن تتركهم وتذهب لتستعطي أموالاً أو مؤونة، فركعت وبكت أمام الرب، وقالت له أنها لم تعد بقادرة على القيام بكل ذلك فيما بعد. لكنها واثقة أنه ستُعنى بالأطفال، وهو من سيأتيها بالمال. وفي نفس ذلك الأسبوع، وصل أربعون طفلاً علاوة على ما كان عندها، فهي لم ترفض قبول أي طفل، بل كانت تفسح مكاناً لهم!
ثم أصبح عليها تدبير ألفي وجبة يومياً، علاوة على الكتب والملابس وسائر احتياجات مئات الأطفال.
وفي نهاية خمس وعشرين سنة لها في مصر، كتبت ليليان إن الله لم يخيب أملها في كل هذه السنين. وعندما زار “لورد مكلاي” من اسكتلنده الملجأ، أعطى ليليان مائة دولار، وعاد إلى بلاده وهو يفكر فيما قد رآه. وفي فبراير سنة 1935، وصل إلى ليليان تلغراف يدعوها للحضور إلى القاهرة فوراً، حيث أعطاها لورد مكلاي خمسة آلاف دولار، وبعد ذلك زادت عطاياه إلى أكثر من عشرين ألف دولار، كما عاد وزارها، وفي فبراير سنة 1937 صرف لورد مكلاي وابنته الليل في الملجأ، وأعطى ليليان شيكين، أحدهما بألفين وخمسمائة دولار للملجأ، والآخر بألفين وخمسمائة دولار لحاجاتها الشخصية. وفي الصباح التالي، قال لورد مكلاي لليليان أن الله قال له أن يعطيها شيكاً بعشرين ألف دولار. فالله يعرف كيف يعتني بأولاده ويكافئ الأمانة.
ومع أن بعض المشكلات المالية قد وجدت حلها، إلا أنه كانت هناك مشكلات أخرى في الأربعينات، فقد انتشرت الكوليرا في 1947، وصلّت ليليان من أجل كل طفل جاء إلى الملجأ، وشكراً للرب، فبالرغم من اقتحام الوبأ للملجأ، فلم يمت أحد.
قيل عنها إنها “أم النيل”، هكذا اشتهرت في الغرب، ولقبت بأنها “قديسة أسيوط”، وكتب البعض عنها من مصريين وأجانب جاعلين إياها “أعظم امرأة في مصر” ، وحين زار ملجأها الرئيس الاول بعد ثورة يوليو 1952 اللواء محمد نجيب، كتب في دفتر التشريفات ما يلي:
” لم يسعدني شيء بقدر ما شاهدته اليوم. كنت أحلم بجنة إنسانية وأتخيلها دائما حتى رأيتها اليوم حقيقة رائعة، فالعناية بالضعفاء من أطفال وأيتام وعجزة، بنين وبنات، رجال ونساء، يتجلى هنا بكل ما في معاني الإنسانية من قوة، فشكرا ً لمس ليليان ولجميع العاملين معها في هذه المؤسسة”.
وحين زارها في مقرها بأسيوط الرئيس جمال عبد الناصر، كتب قائلا ً: ” أكتب لك شاكرا ً، وأريد أن أخبرك أن عملك مع الأيتام يقدره كل مواطن في هذا البلد، وأتمنى لك الاستمرارية في خدمتك الاجتماعية”.
وفي يناير سنة 1960 بدأت عاماً جديداً، وكان العام الخمسين لها في مصر، وتذكرت كيف أنها وهي فتاة صغيرة سعيدة حلمت بأن لها أثني عشر طفلاً ولدتهم.
وبعد موتها في 17 ديسمبر عام 1961 ، نعاها الكاتب الكبير كمال الملاخ في جريدة الأهرام قائلا ً:
” ماتت الغريبة الحلوة القادمة من بعيد…ولاده الأمناء، فلنتقدم الآن إلى مقادس الكلمة الإلهية لندرس هذا الموضوع الجليل
ولم تكن تدرك ماذا ستكون عليه حياتها عندما ألغت خطبتها، فرغم أنها كانت تحب خطيبها، فإنها قالت له وداعاً يا توم، وهو المبشر الشاب الذي كان سيصبح زوجها، فقد أرادت أن تضع الله أولاً. والآن بعد خمسين سنة وقد أصبحت من ذوات الشعر الأبيض، تطلعت من نافذتها إلى 1200 طفل الذين لها.
ماتت ولم يكن لها أبناء من جهة الجسد ولكن عوضها الرب بأن ناداها أكثر من 15 الف طفل تولت هى برعايتهم وأصبحوا رجالا وسيدات خلال ال55 سنة مدة خدمتها بمصر ..قالوا جميعهم وداعا ماما ليليان أثناء مراسم وداعها الى مثواها الاخير.