ماما ترَشْر قديسة‭ ‬أسيوط وأم‭ ‬النيل

 | عالم المكتبات | قصاقيص |

ماما ليليان تراشر مع أبنائها


أتذكر‭ ‬تلك‭ ‬الزيارة‭ ‬التى‭ ‬قمت‭ ‬بها‭ ‬منذ‭ ‬ما‭ ‬يقرب‭ ‬من‭ ‬25‭ ‬سنة‭ ‬مضت‭ ‬إلى‭ ‬إحدى‭ ‬الملاجئ‭ ‬فى‭ ‬صعيد‭ ‬مصر،‭ ‬وبالرغم‭ ‬من‭ ‬كونه‭ ‬محاط‭ ‬بقرى‭ ‬فقيرة‭ ‬"كما‭ ‬هو‭ ‬الحال‭ ‬فى‭ ‬قرى‭ ‬الصعيد‭ ‬الفقيرة"‭ ‬إلا‭ ‬أنه‭ ‬بمجرد‭ ‬دخولك‭ ‬إلى‭ ‬الملجأ‭ ‬تشعر‭ ‬وكأنك‭ ‬فى‭ ‬أغنى‭ ‬بقعة‭ ‬على‭ ‬وجه‭ ‬الأرض،‭ ‬أنه‭ ‬ملجأ‭ ‬ليليان‭ ‬تراشر‭ ‬فى‭ ‬مدينة‭ ‬آسيوط،‭ ‬لم‭ ‬يمحو‭ ‬أسم‭ ‬ليليان‭ ‬تراشر‭ ‬من‭ ‬ذاكرتى،‭ ‬وسعدت‭ ‬جدا‭ ‬بحصولى‭ ‬على‭ ‬نسخة‭ ‬من‭ ‬مذكراتها‭ ‬والتى‭ ‬كتبتها‭ ‬فى‭ ‬يناير‭ ‬1960‭ ‬بعد‭ ‬مرور‭ ‬50‭ ‬عاماً‭ ‬لتشكر‭ ‬فيه‭ ‬المصريين‭ ‬على‭ ‬وقوفها‭ ‬بجانبها‭ ‬فى‭ ‬إنشاء‭ ‬أول‭ ‬ملجأ‭ ‬للأطفال‭ ‬فى‭ ‬مصر‭.‬


ولدت‭ ‬ليليان‭ ‬في‭ ‬ولاية‭ ‬فلوريدا‭ ‬الأمريكية‭ ‬في‭ ‬27‭ ‬سبتمبر‭ ‬1887‭ ‬،‭ ‬وقد‭ ‬نشأت‭ ‬في‭ ‬عائلة‭ ‬محافظة‭ ‬تميل‭ ‬للتقاليد،‭ ‬وفي‭ ‬طفولتها‭ ‬وصباها‭ ‬عرفت‭ ‬الكتاب‭ ‬المقدس،‭ ‬الذي‭ ‬وصفته‭ ‬مرة‭ ‬بأنه‭ ‬"‭ ‬أعظم‭ ‬كتاب‭ ‬في‭ ‬التاريخ"،‭ ‬وتذكرت‭ ‬قائلة‭ ‬"أنا‭ ‬بدأت‭ ‬أقرأ‭ ‬فيه‭ ‬لأول‭ ‬مرة،‭ ‬وسرعان‭ ‬ما‭ ‬جذبتني‭ ‬كلمة‭ ‬الله‭ ‬الثمينة‭. ‬إنني‭ ‬لن‭ ‬أنسى‭ ‬التأثير‭ ‬الرائع‭ ‬لقراءة‭ ‬الكتاب‭ ‬المقدس‭ ‬لأول‭ ‬مرة‭ ‬في‭ ‬حياتي"‭. ‬لقد‭ ‬رأته‭ ‬لأول‭ ‬مرة‭ ‬عند‭ ‬إحدى‭ ‬صديقاتها،‭ ‬فطلبت‭ ‬من‭ ‬أمها‭ ‬أن‭ ‬تشتريه‭ ‬لها‭ ‬في‭ ‬الحال‭ ‬دون‭ ‬الاِنتظار‭ ‬لعيد‭ ‬ميلادها‭ ‬كما‭ ‬وعدتها‭ ‬أمها‭.‬


وبعد‭ ‬ذلك‭ ‬بسنوات،‭ ‬قابلت‭ ‬السيدة‭ ‬ماتى‭ ‬بيري‭ ‬التي‭ ‬كانت‭ ‬تدير‭ ‬ملجأً‭ ‬للأيتام‭ ‬في‭ ‬مكان‭ ‬قريب‭ ‬منها‭ ‬فى‭ ‬مارليون‭ ‬فى‭ ‬كارولينا‭ ‬بأمريكا،‭ ‬ودعتها‭ ‬لكى‭ ‬تأتي‭ ‬للعمل‭ ‬بالملجأ،‭ ‬ولم‭ ‬تكن‭ ‬ليليان‭ ‬تدرك‭ ‬أن‭ ‬هذا‭ ‬المكان‭ ‬هو‭ ‬الذي‭ ‬ستتدرب‭ ‬فيه‭ ‬على‭ ‬عملها‭ ‬لرعية‭ ‬الايتام‭ ‬طوال‭ ‬أيام‭ ‬حياتها،‭ ‬حيث‭ ‬بدأت‭ ‬بالعمل‭ ‬في‭ ‬الخياطة‭ ‬والمطبخ‭ ‬والعناية‭ ‬بالأطفال‭ ‬المولودين‭ ‬حديثاً،‭ ‬والعناية‭ ‬بأعداد‭ ‬كبيرة‭ ‬من‭ ‬الأطفال‭ ‬اليتامى،‭ ‬وتعلمت‭ ‬كيف‭ ‬تتكّل‭ ‬على‭ ‬الله‭ ‬لسد‭ ‬احتياجات‭ ‬الحياة‭ ‬اليومية،‭ ‬ولم‭ ‬يكن‭ ‬لديها‭ ‬أى‭ ‬أموال‭ ‬بالمرة‭ ‬ولم‭ ‬يرسل‭ ‬لها‭ ‬أى‭ ‬أحدٌ‭ ‬شيئاً،‭ ‬ولم‭ ‬تكتب‭ ‬مطلقاً‭ ‬للآخرين‭ ‬عن‭ ‬احتياجاتها،‭ ‬حتى‭ ‬أن‭ ‬أحذيتها‭ ‬تمزقت‭ ‬ولم‭ ‬يكن‭ ‬لديها‭ ‬مال‭ ‬لشراء‭ ‬زوج‭ ‬جديد،‭ ‬وأرسل‭ ‬إليها‭ ‬أحدهم‭ ‬صندوقاً‭ ‬من‭ ‬ثياب‭ ‬قديمة،‭ ‬وكان‭ ‬فيها‭ ‬زوج‭ ‬أحذية‭ ‬رجالي،‭ ‬فلبسته‭ ‬ليليان‭ ‬دون‭ ‬مبالاة‭.‬


وكانت‭ ‬تصلي‭ ‬من‭ ‬أجل‭ ‬أن‭ ‬يدعوها‭ ‬الله‭ ‬للعمل‭ ‬بين‭ ‬الفقراء،‭ ‬ولكن‭ ‬في‭ ‬تلك‭ ‬الأثناء‭ ‬خُطبت‭ ‬لتتزوج،‭ ‬وقبل‭ ‬يوم‭ ‬زفافها‭ ‬بعشرة‭ ‬أيام‭ ‬رافقت‭ ‬السيدة‭ ‬بيري‭ ‬لتسمع‭ ‬أحد‭ ‬الوعاظ‭ ‬وكان‭ ‬من‭ ‬الهند،‭ ‬وقد‭ ‬تأثرت‭ ‬بشدة‭ ‬من‭ ‬عظتة‭ ‬التى‭ ‬كانت‭ ‬بمثابة‭ ‬رسالة‭ ‬لها‭ ‬من‭ ‬السماء،‭ ‬حتى‭ ‬أنها‭ ‬بكت‭ ‬في‭ ‬أثناء‭ ‬الصلاة‭ ‬من‭ ‬قلبها،‭ ‬وظلت‭ ‬تبكي‭ ‬طوال‭ ‬الطريق‭ ‬إلى‭ ‬الملجأ‭ ‬بل‭ ‬وطول‭ ‬الليل،‭ ‬حتى‭ ‬أن‭ ‬السيدة‭ ‬بيري‭ ‬أرادت‭ ‬أن‭ ‬تعرف‭ ‬سبباً‭ ‬لذلك،‭ ‬فأوضحت‭ ‬لها‭ ‬ليليان‭ ‬أنه‭ ‬ليس‭ ‬هناك‭ ‬شيء‭ ‬سوى‭ ‬أنها‭ ‬قد‭ ‬خُطبت‭ ‬لتتزوج‭ ‬أفضل‭ ‬شاب‭ ‬في‭ ‬العالم،‭ ‬وأنها‭ ‬لا‭ ‬تستطيع‭ ‬أن‭ ‬تتزوجه،‭ ‬فقد‭ ‬دعاها‭ ‬الله‭ ‬لأفريقيا‭ ‬ويجب‭ ‬أن‭ ‬تطيع،‭ ‬وقد‭ ‬عرضت‭ ‬عليه‭ ‬أن‭ ‬يرافقها‭ ‬للعمل‭ ‬فى‭ ‬أفريقيا،‭ ‬ولكنها‭ ‬أبى‭ ‬ورفض،‭ ‬وعند‭ ‬ذلك‭ ‬تركته،‭ ‬إذ‭ ‬يجب‭ ‬أن‭ ‬تضع‭ ‬الله‭ ‬أولاً‭ ‬وقبل‭ ‬أى‭ ‬أحد‭.‬


وإذ‭ ‬لم‭ ‬تكن‭ ‬تعرف‭ ‬إلا‭ ‬القليل‭ ‬عن‭ ‬المكان‭ ‬الذي‭ ‬ستذهب‭ ‬إليه،‭ ‬جمعت‭ ‬ممتلكاتها‭ ‬القليلة‭ ‬والقليل‭ ‬من‭ ‬الدولارات‭- ‬والتي‭ ‬كانت‭ ‬كل‭ ‬ما‭ ‬تملك،‭ ‬وذهبت‭ ‬إلى‭ ‬مؤتمر‭ ‬في‭ ‬بتسبرج‭ ‬لإعداد‭ ‬المرسلين‭ ‬في‭ ‬بنسلفانيا،‭ ‬وكانت‭ ‬متأكدة‭ ‬من‭ ‬أن‭ ‬الله‭ ‬سيتولى‭ ‬أمرها‭ ‬ويسدد‭ ‬أعوازها‭ ‬كما‭ ‬فعل‭ ‬على‭ ‬الدوام‭ ‬من‭ ‬قبل‭. ‬وقد‭ ‬فعل‭ ‬ذلك‭ ‬حقاً،‭ ‬فبعد‭ ‬وقت‭ ‬قصير‭ ‬وصلت‭ ‬إلى‭ ‬بروكلين‭ ‬في‭ ‬نيويورك‭ ‬في‭ ‬طريقها‭ ‬إلى‭ ‬مصر،‭ ‬وهناك‭ ‬قابلت‭ ‬القس‭ ‬برلسفورد‭ ‬الذى‭ ‬دعاها‭ ‬للعمل‭ ‬معه‭ ‬فى‭ ‬أسيوط‭. ‬وقد‭ ‬لحقت‭ ‬بها‭ ‬أختها‭ ‬“جيني”‭ ‬حتى‭ ‬لا‭ ‬تتركها‭ ‬بمفردها‭ ‬فى‭ ‬بلد‭ ‬غريب،‭ ‬وأقنعها‭ ‬أحدهم‭ ‬بأن‭ ‬تطلب‭ ‬وعداً‭ ‬من‭ ‬الرب‭ ‬ففتحت‭ ‬ليليان‭ ‬كتابها‭ ‬المقدس‭ ‬وقرأت‭ ‬الآية‭ ‬التى‭ ‬تقول‭ ‬"إني‭ ‬لقد‭ ‬رأيت‭ ‬مشقة‭ ‬شعبي‭ ‬الذين‭ ‬في‭ ‬مصر‭ ‬وسمعت‭ ‬أنينهم‭ ‬ونزلت‭ ‬لأنقذهم،‭ ‬فهلم‭ ‬الآن‭ ‬أرسلك‭ ‬إلى‭ ‬مصر"‭.‬


نزلت‭ ‬الأختان‭ ‬في‭ ‬الإسكندرية،‭ ‬وسافرتا‭ ‬بالقطار‭ ‬إلى‭ ‬القاهرة،‭ ‬ثم‭ ‬بالمركب‭ ‬على‭ ‬نهر‭ ‬النيل‭ ‬إلى‭ ‬أسيوط‭ ‬والتى‭ ‬وصلتها‭ ‬فى‭ ‬26‭ ‬أكتوبر‭ ‬1910،‭ ‬وقصدت‭ ‬جمعية‭ ‬القس‭ ‬برلسفورد‭ ‬"الكنيسة‭ ‬الرسولية"‭ ‬ورأت‭ ‬أنه‭ ‬أجمل‭ ‬مكان‭ ‬في‭ ‬العالم،‭ ‬وبدأت‭ ‬بتعلم‭ ‬اللغة‭ ‬العربية‭ ‬لكى‭ ‬تستطيع‭ ‬العيش‭ ‬على‭ ‬أرض‭ ‬مصر‭ ‬وتتعامل‭ ‬مع‭ ‬أهلها‭ ‬من‭ ‬السكان‭ ‬المحليين،‭ ‬ولم‭ ‬تلبث‭ ‬أن‭ ‬واجهت‭ ‬اِحتياجات‭ ‬الأطفال‭ ‬الفقراء‭ ‬الذين‭ ‬لا‭ ‬مأوى‭ ‬لهم،‭ ‬المنبوذين‭ ‬الذين‭ ‬يرتدون‭ ‬الثياب‭ ‬البالية‭.


وفي‭ ‬منتصف‭ ‬إحدى‭ ‬الليالي‭ ‬وبعد‭ ‬مرور‭ ‬ثلاثة‭ ‬شهور‭ ‬فقط‭ ‬من‭ ‬وصولها،‭ ‬طرق‭ ‬أحد‭ ‬الرجال‭ ‬بابها،‭ ‬وكان‭ ‬يبحث‭ ‬عن‭ ‬شخص‭ ‬يأتي‭ ‬ليصلي‭ ‬مع‭ ‬امرأة‭ ‬فقيرة‭ ‬تشرف‭ ‬على‭ ‬الموت،‭ ‬فأخذت‭ ‬ليليان‭ ‬معها‭ ‬من‭ ‬يترجم‭ ‬لها‭ ‬"فلم‭ ‬تكن‭ ‬قد‭ ‬أتقنت‭ ‬العربية‭ ‬بعد"‭ ‬ورافقت‭ ‬الرجل‭ ‬دون‭ ‬أن‭ ‬تكون‭ ‬لديها‭ ‬أية‭ ‬فكرة‭ ‬عما‭ ‬ستجده‭ ‬هناك،‭ ‬وقد‭ ‬ارتعبت‭ ‬عندما‭ ‬اكتشفت‭ ‬وجود‭ ‬طفلة‭ ‬عمرها‭ ‬ثلاثة‭ ‬أشهر‭ ‬تحاول‭ ‬أن‭ ‬تشرب‭ ‬لبناً‭ ‬نتناَ‭ ‬أخضر‭ ‬اللون،‭ ‬من‭ ‬إناء‭ ‬متسخ‭ ‬من‭ ‬الصفيح،‭ ‬وقد‭ ‬التصقت‭ ‬ثيابها‭ ‬بجسدها‭ ‬وبدا‭ ‬أنها‭ ‬لم‭ ‬تتغير‭ ‬منذ‭ ‬مولدها،‭ ‬ورائحتها‭ ‬النتنة‭ ‬لا‭ ‬تطاق‭.‬وعند‭ ‬وصول‭ ‬ليليان،‭ ‬أسلمت‭ ‬المرأة‭ ‬روحها‭ ‬وسلم‭ ‬الطفل‭ ‬إلى‭ ‬ليليان،‭ ‬التي‭ ‬اصطحبت‭ ‬الطفلة‭ ‬معها‭ ‬إلى‭ ‬بيت‭ ‬الجمعية،‭ ‬وتبادلت‭ ‬الأختان‭ ‬أرجحة‭ ‬الطفلة‭ ‬ومحاولة‭ ‬أعطائها‭ ‬بعض‭ ‬اللبن،‭ ‬ولقد‭ ‬حاولت‭ ‬الأختان‭ ‬أن‭ ‬تعتنيا‭ ‬بالصغيرة‭ ‬طوال‭ ‬إثني‭ ‬عشر‭ ‬يوماً‭ ‬وليلة،‭ ‬والطفلة‭ ‬تعوي‭ ‬باستمرار،‭ ‬وكان‭ ‬مما‭ ‬لا‭ ‬يصدق‭ ‬أن‭ ‬طفلة‭ ‬سيئة‭ ‬التغذية،‭ ‬تستطيع‭ ‬أن‭ ‬تصرخ‭ ‬صراخاً‭ ‬عالياً‭ ‬بهذه‭ ‬الصورة‭. ‬وسرعان‭ ‬ما‭ ‬فرغ‭ ‬صبر‭ ‬الخادمات‭ ‬المشاركات‭ ‬ببيت،‭ ‬وأمر‭ ‬رئيس‭ ‬الإرسالية‭ ‬برلسفورد‭ ‬ليليان‭ ‬أن‭ ‬تعيد‭ ‬الطفلة‭ ‬إلى‭ ‬مكانها‭.


ولكن‭ ‬إلى‭ ‬من‭ ‬تعيد‭ ‬ليليان‭ ‬الطفلة؟‭ ‬لقد‭ ‬جاءت‭ ‬لكي‭ ‬تعمل‭ ‬حسب‭ ‬نظام‭ ‬الإرسالية‭ ‬المعهود‭ ‬الذي‭ ‬كان‭ ‬يحتم‭ ‬على‭ ‬المرأة‭ ‬غير‭ ‬المتزوجة‭ ‬أن‭ ‬تخضع‭ ‬لقادتها‭ ‬من‭ ‬الرجال،‭ ‬فالمرسل‭ ‬المحنك‭ ‬يعرف‭ ‬الأفضل،‭ ‬فقررت‭ ‬ليليان‭ ‬أن‭ ‬تعيش‭ ‬بمفردها‭ ‬لرعاية‭ ‬الطفل‭ ‬وأن‭ ‬تأخذ‭ ‬الطفلة‭ ‬يوم‭ ‬10‭ ‬فبراير‭ ‬1911‭ ‬لتقيم‭ ‬معها‭. ‬وقد‭ ‬تعجب‭ ‬رئيسها‭ ‬كيف‭ ‬يمكنها‭ ‬أن‭ ‬تقوم‭ ‬بذلك‭ ‬بمفردها‭ ‬"امرأة‭ ‬أمريكية‭ ‬غير‭ ‬متزوجة‭ ‬في‭ ‬عالم‭ ‬عربي"‭ ‬لقد‭ ‬شعر‭ ‬بأنها‭ ‬إما‭ ‬أن‭ ‬تُقتل‭ ‬أو‭ ‬تتضور‭ ‬جوعاً‭ ‬حتى‭ ‬الموت،‭ ‬ولكنها‭ ‬وضعت‭ ‬كل‭ ‬ثقتها‭ ‬في‭ ‬الله،‭ ‬فقد‭ ‬عرفت‭ ‬ليليان‭ ‬أنها‭ ‬لن‭ ‬تكون‭ ‬وحيدة،‭ ‬لأن‭ ‬الله‭ ‬سيكون‭ ‬معها‭. ‬واستطاعت‭ ‬بالستين‭ ‬دولاراً‭ ‬التي‭ ‬بقيت‭ ‬معها‭ ‬من‭ ‬مصاريف‭ ‬السفر،‭ ‬فأستأجرت‭ ‬بيتاً‭ ‬صغيراً،‭ ‬واشترت‭ ‬موقد‭ ‬كيروسين‭ ‬للطبخ،‭ ‬وبعض‭ ‬الأثاث‭. ‬ولم‭ ‬يعد‭ ‬معها‭ ‬أي‭ ‬نقود،‭ ‬وقد‭ ‬انتهت‭ ‬معونة‭ ‬مجلس‭ ‬إرساليتها‭ ‬ولكن‭ ‬كانت‭ ‬لها‭ ‬ثقة‭ ‬في‭ ‬الله،‭ ‬وتتذكر‭ ‬أنه‭ ‬كان‭ ‬أول‭ ‬تبرع‭ ‬للمؤسسة‭ ‬التى‭ ‬أنشأتها‭ ‬مبلغ‭ ‬سبعة‭ ‬قروش‭ ‬قدمها‭ ‬لها‭ ‬ساعى‭ ‬تلغراف،‭ ‬وبعد‭ ‬أن‭ ‬عادت‭ ‬أختها‭ ‬إلى‭ ‬لونج‭ ‬بيتش‭ ‬في‭ ‬كاليفورنيا‭ ‬"ولم‭ ‬ترجع‭ ‬إلى‭ ‬مصر‭ ‬على‭ ‬مدى‭ ‬سنوات‭ ‬عديدة"‭ ‬وحيث‭ ‬أنه‭ ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬لليليان‭ ‬مورد‭ ‬رزق،‭ ‬ابتدأت‭ ‬تستعطي‭. ‬وكان‭ ‬أول‭ ‬عطاء‭ ‬لها‭ ‬نحو‭ ‬ثلث‭ ‬دولار،‭ ‬كان‭ ‬يكفي‭ ‬لشراء‭ ‬طعام‭ ‬لذلك‭ ‬اليوم


وتتذكر‭ ‬ليليان‭ ‬هذه‭ ‬الفترة‭ ‬فتقول‭ ‬"فى‭ ‬البداية‭ ‬كان‭ ‬من‭ ‬الصعب‭ ‬أن‭ ‬يقبل‭ ‬الأيتام‭ ‬إلينا‭ ‬حيث‭ ‬أن‭ ‬الناس‭ ‬لم‭ ‬يسبق‭ ‬يشجعوا‭ ‬شيئاً‭ ‬من‭ ‬هذا‭ ‬القبيل،‭ ‬أن‭ ‬يرغب‭ ‬شخص‭ ‬فى‭ ‬إيواء‭ ‬الأطفال‭ ‬وغذائهم‭ ‬وكسائهم‭ ‬وتعليمهم،‭ ‬ويعتنى‭ ‬بهم‭ ‬بلا‭ ‬مقابل‭ ‬وبدون‭ ‬أجر،‭ ‬وأعتقدوا‭ ‬أنه‭ ‬لابد‭ ‬أن‭ ‬يكون‭ ‬فى‭ ‬الأمر‭ ‬سر‭ ‬خفى‭ ‬وراء‭ ‬كل‭ ‬هذا،‭ ‬ربما‭ ‬أعتقدوا‭ ‬بأننى‭ ‬سأخطف‭ ‬الأطفال‭ ‬إلى‭ ‬أمريكا"‭ ‬تجولت‭ ‬ليليان‭ ‬على‭ ‬حمار‭ ‬لتستعطي‭ ‬مالاً،‭ ‬وفي‭ ‬أحيان‭ ‬كثيرة‭ ‬كانوا‭ ‬يعطونها‭ ‬أطفالاً‭ ‬عوضاً‭ ‬عن‭ ‬المال،‭ ‬وكان‭ ‬رجال‭ ‬الحكومة‭ ‬يندهشون‭ ‬لأن‭ ‬أحداً‭ ‬لم‭ ‬يزعجها‭ ‬أو‭ ‬يؤذيها‭. ‬وقد‭ ‬وبخها‭ ‬حاكم‭ ‬المدينة‭ ‬لركوبها‭ ‬الحمار،‭ ‬لأنه‭ ‬أمر‭ ‬محتقر‭ ‬لشابة‭ ‬جميلة،‭ ‬فقالت‭ ‬له‭ ‬ليليان‭ ‬إن‭ ‬الحمار‭ ‬قد‭ ‬ركبته‭ ‬أم‭ ‬ربها،‭ ‬فهو‭ ‬بكل‭ ‬تأكيد‭ ‬يصلح‭ ‬لها‭ ‬أيضاً،‭ ‬فأصبحت‭ ‬تُعرف‭ ‬باسم‭ ‬“السيدة‭ ‬راكبة‭ ‬الحمار‭ ‬“،‭ ‬ومراراً‭ ‬كثيرة‭ ‬في‭ ‬ترحالها،‭ ‬لم‭ ‬تكن‭ ‬تستطيع‭ ‬العودة‭ ‬إلى‭ ‬الملجأ‭ ‬في‭ ‬الليل،‭ ‬وإذا‭ ‬لم‭ ‬يقدم‭ ‬لها‭ ‬أحد‭ ‬مكاناً‭ ‬مأموناً‭ ‬للمبيت،‭ ‬كانت‭ ‬تذهب‭ ‬إلى‭ ‬أقرب‭ ‬مركز‭ ‬للبوليس‭ ‬وتصرف‭ ‬الليل‭ ‬مع‭ ‬حمارها‭ ‬في‭ ‬السجن،‭ ‬ولم‭ ‬يكن‭ ‬المصريون‭ ‬يصدقون‭ ‬مدى‭ ‬عزيمتها‭ ‬وكيف‭ ‬يمكن‭ ‬لامرأة‭ ‬أمريكية‭ ‬أن‭ ‬تتحمل‭ ‬الحرارة‭.‬


وكانت‭ ‬تأتي‭ ‬لها‭ ‬فى‭ ‬بعض‭ ‬الأحيان‭ ‬معونات‭ ‬من‭ ‬كنيستها،‭ ‬كميات‭ ‬من‭ ‬الملابس،‭ ‬وأحياناً‭ ‬بعض‭ ‬الأموال،‭ ‬ولكن‭ ‬ليليان‭ ‬ظلت‭ ‬تعتمد‭ ‬على‭ ‬كرم‭ ‬جيرانها‭ ‬المصريين،‭ ‬فكانت‭ ‬تشكر‭ ‬لأجل‭ ‬كل‭ ‬دولار‭ ‬ولأجل‭ ‬كل‭ ‬ما‭ ‬يُقدَّم‭ ‬لها،‭ ‬وكانت‭ ‬ترد‭ ‬على‭ ‬كل‭ ‬خطاب‭ ‬يصلها،‭ ‬في‭ ‬نفس‭ ‬اليوم‭.‬


وفي1916‭ ‬كان‭ ‬قد‭ ‬وصل‭ ‬عدد‭ ‬الأطفال‭ ‬إلى‭ ‬خمسون‭ ‬طفلاً‭ ‬في‭ ‬الملجأ‭. ‬وكان‭ ‬عليها‭ ‬أن‭ ‬تبني‭ ‬مكاناً،‭ ‬وقد‭ ‬ساعدها‭ ‬الأطفال‭ ‬في‭ ‬البناء،‭ ‬بل‭ ‬كانوا‭ ‬يقومون‭ ‬بعمل‭ ‬الطوب،‭ ‬وبدأت‭ ‬في‭ ‬تعليمهم‭ ‬الحرف‭ ‬إذ‭ ‬كان‭ ‬يلزم‭ ‬إعدادهم‭ ‬للحياة‭ ‬ومع‭ ‬حلول‭ ‬عام‭ ‬1923‭ ‬كانت‭ ‬تأوي‭ ‬ثلثمائة‭ ‬يتيم‭ ‬وأرملة،‭ ‬ولكنها‭ ‬لم‭ ‬تكن‭ ‬قد‭ ‬حققت‭ ‬محصولاً‭ ‬روحياً‭ ‬كبيراً،‭ ‬ولكن‭ ‬في‭ ‬1927‭ ‬شهدت‭ ‬النهضة‭ ‬التي‭ ‬صلت‭ ‬من‭ ‬أجلها‭ ‬مدة‭ ‬طويلة،‭ ‬وفي‭ ‬أثناء‭ ‬ذلك‭ ‬ظلت‭ ‬تخيط‭ ‬وتغسل‭ ‬وتطعم‭ ‬وتبني،‭ ‬وكانت‭ ‬على‭ ‬الدوام‭ ‬تتكل‭ ‬على‭ ‬الله‭ ‬في‭ ‬كل‭ ‬شيء‭.‬


وفي‭ ‬إحدى‭ ‬الليالي‭ ‬عندما‭ ‬قام‭ ‬المصريون‭ ‬ضد‭ ‬الحكام‭ ‬البريطانيين،‭ ‬خلال‭ ‬الحرب‭ ‬العالمية‭ ‬الثانية،‭ ‬كان‭ ‬عليها‭ ‬أن‭ ‬تنقل‭ ‬أطفالها‭ ‬من‭ ‬الملجأ‭ ‬إلى‭ ‬مكان‭ ‬آمن،‭ ‬وعندما‭ ‬عدت‭ ‬الرؤوس،‭ ‬اكتشفت‭ ‬غياب‭ ‬طفلين،‭ ‬ورغم‭ ‬احتجاجات‭ ‬العاملات‭ ‬معها‭ ‬زحفت‭ ‬عائدة‭ ‬إلى‭ ‬الملجأ‭ ‬ووجدت‭ ‬الطفلين‭ ‬المرتعبين،‭ ‬فاحتضنتهما‭ ‬تحت‭ ‬ذراعيها،‭ ‬كل‭ ‬منهما‭ ‬تحت‭ ‬ذراع،‭ ‬وعادت‭ ‬ببطء‭ ‬إلى‭ ‬ذلك‭ ‬المكان‭ ‬الآمن،‭ ‬وفجأة‭ ‬سد‭ ‬الثائرون‭ ‬الطريق‭ ‬أمامها،‭ ‬فكان‭ ‬عليها‭ ‬أن‭ ‬تهبط‭ ‬إلى‭ ‬خندق،‭ ‬حيث‭ ‬وجدت‭ ‬جندياً‭ ‬مائتاً،‭ ‬فكبتت‭ ‬رعبها‭ ‬لأن‭ ‬أي‭ ‬صرخة‭ ‬كان‭ ‬يمكن‭ ‬أن‭ ‬تؤدي‭ ‬إلى‭ ‬موتها‭ ‬وموت‭ ‬الطفلين،‭ ‬وبدأ‭ ‬الجنود‭ ‬يقتربون‭ ‬أكثر‭ ‬فأكثر‭ ‬إلى‭ ‬أن‭ ‬سار‭ ‬أحد‭ ‬الجنود‭ ‬على‭ ‬ليليان،‭ ‬فالأرجح‭ ‬أنه‭ ‬ظنها‭ ‬مائتة،‭ ‬وظل‭ ‬يمشي،‭ ‬وليليان‭ ‬تنظر‭ ‬وهي‭ ‬ترنم‭ ‬بهدوء‭ ‬“يسوع‭ ‬يحبني”‭ ‬في‭ ‬آذان‭ ‬الأطفال،‭ ‬وعندما‭ ‬انتهى‭ ‬الخطر،‭ ‬زحفت‭ ‬إلى‭ ‬الأمان‭ ‬مع‭ ‬الآخرين‭ ‬والأطفال‭.‬


وحكت‭ ‬ليليان‭ ‬لكل‭ ‬جيرانها‭ ‬المصريين‭ ‬عن‭ ‬قوة‭ ‬الله،‭ ‬وشيئاً‭ ‬فشيئاً‭ ‬اكتسبت‭ ‬ثقة‭ ‬الكنائس‭ ‬المصرية‭ ‬و‭ ‬الأمريكية،‭ ‬ولكن‭ ‬عندما‭ ‬حل‭ ‬الكساد،‭ ‬هبطت‭ ‬المعونات‭ ‬الأمريكية‭ ‬المالية‭ ‬إلى‭ ‬لا‭ ‬شيء‭ ‬عملياً‭. ‬وكان‭ ‬قد‭ ‬أصبح‭ ‬لديها‭ ‬عدد‭ ‬كبير‭ ‬من‭ ‬الأطفال،‭ ‬فلم‭ ‬يكن‭ ‬يمكنها‭ ‬أن‭ ‬تتركهم‭ ‬وتذهب‭ ‬لتستعطي‭ ‬أموالاً‭ ‬أو‭ ‬مؤونة،‭ ‬فركعت‭ ‬وبكت‭ ‬أمام‭ ‬الرب،‭ ‬وقالت‭ ‬له‭ ‬أنها‭ ‬لم‭ ‬تعد‭ ‬بقادرة‭ ‬على‭ ‬القيام‭ ‬بكل‭ ‬ذلك‭ ‬فيما‭ ‬بعد‭. ‬لكنها‭ ‬واثقة‭ ‬أنه‭ ‬ستُعنى‭ ‬بالأطفال،‭ ‬وهو‭ ‬من‭ ‬سيأتيها‭ ‬بالمال‭. ‬وفي‭ ‬نفس‭ ‬ذلك‭ ‬الأسبوع،‭ ‬وصل‭ ‬أربعون‭ ‬طفلاً‭ ‬علاوة‭ ‬على‭ ‬ما‭ ‬كان‭ ‬عندها،‭ ‬فهي‭ ‬لم‭ ‬ترفض‭ ‬قبول‭ ‬أي‭ ‬طفل،‭ ‬بل‭ ‬كانت‭ ‬تفسح‭ ‬مكاناً‭ ‬لهم‭!‬


ثم‭ ‬أصبح‭ ‬عليها‭ ‬تدبير‭ ‬ألفي‭ ‬وجبة‭ ‬يومياً،‭ ‬علاوة‭ ‬على‭ ‬الكتب‭ ‬والملابس‭ ‬وسائر‭ ‬احتياجات‭ ‬مئات‭ ‬الأطفال‭.‬


وفي‭ ‬نهاية‭ ‬خمس‭ ‬وعشرين‭ ‬سنة‭ ‬لها‭ ‬في‭ ‬مصر،‭ ‬كتبت‭ ‬ليليان‭ ‬إن‭ ‬الله‭ ‬لم‭ ‬يخيب‭ ‬أملها‭ ‬في‭ ‬كل‭ ‬هذه‭ ‬السنين‭. ‬وعندما‭ ‬زار‭ ‬“لورد‭ ‬مكلاي”‭ ‬من‭ ‬اسكتلنده‭ ‬الملجأ،‭ ‬أعطى‭ ‬ليليان‭ ‬مائة‭ ‬دولار،‭ ‬وعاد‭ ‬إلى‭ ‬بلاده‭ ‬وهو‭ ‬يفكر‭ ‬فيما‭ ‬قد‭ ‬رآه‭. ‬وفي‭ ‬فبراير‭ ‬سنة‭ ‬1935،‭ ‬وصل‭ ‬إلى‭ ‬ليليان‭ ‬تلغراف‭ ‬يدعوها‭ ‬للحضور‭ ‬إلى‭ ‬القاهرة‭ ‬فوراً،‭ ‬حيث‭ ‬أعطاها‭ ‬لورد‭ ‬مكلاي‭ ‬خمسة‭ ‬آلاف‭ ‬دولار،‭ ‬وبعد‭ ‬ذلك‭ ‬زادت‭ ‬عطاياه‭ ‬إلى‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬عشرين‭ ‬ألف‭ ‬دولار،‭ ‬كما‭ ‬عاد‭ ‬وزارها،‭ ‬وفي‭ ‬فبراير‭ ‬سنة‭ ‬1937‭ ‬صرف‭ ‬لورد‭ ‬مكلاي‭ ‬وابنته‭ ‬الليل‭ ‬في‭ ‬الملجأ،‭ ‬وأعطى‭ ‬ليليان‭ ‬شيكين،‭ ‬أحدهما‭ ‬بألفين‭ ‬وخمسمائة‭ ‬دولار‭ ‬للملجأ،‭ ‬والآخر‭ ‬بألفين‭ ‬وخمسمائة‭ ‬دولار‭ ‬لحاجاتها‭ ‬الشخصية‭. ‬وفي‭ ‬الصباح‭ ‬التالي،‭ ‬قال‭ ‬لورد‭ ‬مكلاي‭ ‬لليليان‭ ‬أن‭ ‬الله‭ ‬قال‭ ‬له‭ ‬أن‭ ‬يعطيها‭ ‬شيكاً‭ ‬بعشرين‭ ‬ألف‭ ‬دولار‭. ‬فالله‭ ‬يعرف‭ ‬كيف‭ ‬يعتني‭ ‬بأولاده‭ ‬ويكافئ‭ ‬الأمانة.


ومع‭ ‬أن‭ ‬بعض‭ ‬المشكلات‭ ‬المالية‭ ‬قد‭ ‬وجدت‭ ‬حلها،‭ ‬إلا‭ ‬أنه‭ ‬كانت‭ ‬هناك‭ ‬مشكلات‭ ‬أخرى‭ ‬في‭ ‬الأربعينات،‭ ‬فقد‭ ‬انتشرت‭ ‬الكوليرا‭ ‬في‭ ‬1947،‭ ‬وصلّت‭ ‬ليليان‭ ‬من‭ ‬أجل‭ ‬كل‭ ‬طفل‭ ‬جاء‭ ‬إلى‭ ‬الملجأ،‭ ‬وشكراً‭ ‬للرب،‭ ‬فبالرغم‭ ‬من‭ ‬اقتحام‭ ‬الوبأ‭ ‬للملجأ،‭ ‬فلم‭ ‬يمت‭ ‬أحد‭.‬


قيل‭ ‬عنها‭ ‬إنها‭ ‬“أم‭ ‬النيل”،‭ ‬هكذا‭ ‬اشتهرت‭ ‬في‭ ‬الغرب،‭ ‬ولقبت‭ ‬بأنها‭ ‬“قديسة‭ ‬أسيوط”،‭ ‬وكتب‭ ‬البعض‭ ‬عنها‭ ‬من‭ ‬مصريين‭ ‬وأجانب‭ ‬جاعلين‭ ‬إياها‭ ‬“أعظم‭ ‬امرأة‭ ‬في‭ ‬مصر”‭ ‬،‭ ‬وحين‭ ‬زار‭ ‬ملجأها‭ ‬الرئيس‭ ‬الاول‭ ‬بعد‭ ‬ثورة‭ ‬يوليو‭ ‬1952‭ ‬اللواء‭ ‬محمد‭ ‬نجيب،‭ ‬كتب‭ ‬في‭ ‬دفتر‭ ‬التشريفات‭ ‬ما‭ ‬يلي‭:


”‭ ‬لم‭ ‬يسعدني‭ ‬شيء‭ ‬بقدر‭ ‬ما‭ ‬شاهدته‭ ‬اليوم‭. ‬كنت‭ ‬أحلم‭ ‬بجنة‭ ‬إنسانية‭ ‬وأتخيلها‭ ‬دائما‭ ‬حتى‭ ‬رأيتها‭ ‬اليوم‭ ‬حقيقة‭ ‬رائعة،‭ ‬فالعناية‭ ‬بالضعفاء‭ ‬من‭ ‬أطفال‭ ‬وأيتام‭ ‬وعجزة،‭ ‬بنين‭ ‬وبنات،‭ ‬رجال‭ ‬ونساء،‭ ‬يتجلى‭ ‬هنا‭ ‬بكل‭ ‬ما‭ ‬في‭ ‬معاني‭ ‬الإنسانية‭ ‬من‭ ‬قوة،‭ ‬فشكرا‭ ‬ً‭ ‬لمس‭ ‬ليليان‭ ‬ولجميع‭ ‬العاملين‭ ‬معها‭ ‬في‭ ‬هذه‭ ‬المؤسسة”‭.‬


وحين‭ ‬زارها‭ ‬في‭ ‬مقرها‭ ‬بأسيوط‭ ‬الرئيس‭ ‬جمال‭ ‬عبد‭ ‬الناصر،‭ ‬كتب‭ ‬قائلا‭ ‬ً‭: ‬”‭ ‬أكتب‭ ‬لك‭ ‬شاكرا‭ ‬ً،‭ ‬وأريد‭ ‬أن‭ ‬أخبرك‭ ‬أن‭ ‬عملك‭ ‬مع‭ ‬الأيتام‭ ‬يقدره‭ ‬كل‭ ‬مواطن‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬البلد،‭ ‬وأتمنى‭ ‬لك‭ ‬الاستمرارية‭ ‬في‭ ‬خدمتك‭ ‬الاجتماعية”‭.‬


وفي‭ ‬يناير‭ ‬سنة‭ ‬1960‭ ‬بدأت‭ ‬عاماً‭ ‬جديداً،‭ ‬وكان‭ ‬العام‭ ‬الخمسين‭ ‬لها‭ ‬في‭ ‬مصر،‭ ‬وتذكرت‭ ‬كيف‭ ‬أنها‭ ‬وهي‭ ‬فتاة‭ ‬صغيرة‭ ‬سعيدة‭ ‬حلمت‭ ‬بأن‭ ‬لها‭ ‬أثني‭ ‬عشر‭ ‬طفلاً‭ ‬ولدتهم‭.‬


وبعد‭ ‬موتها‭ ‬في‭ ‬17‭ ‬ديسمبر‭ ‬عام‭ ‬1961‭ ‬،‭ ‬نعاها‭ ‬الكاتب‭ ‬الكبير‭ ‬كمال‭ ‬الملاخ‭ ‬في‭ ‬جريدة‭ ‬الأهرام‭ ‬قائلا‭ ‬ً‭:‬

”‭ ‬ماتت‭ ‬الغريبة‭ ‬الحلوة‭ ‬القادمة‭ ‬من‭ ‬بعيد…ولاده‭ ‬الأمناء،‭ ‬فلنتقدم‭ ‬الآن‭ ‬إلى‭ ‬مقادس‭ ‬الكلمة‭ ‬الإلهية‭ ‬لندرس‭ ‬هذا‭ ‬الموضوع‭ ‬الجليل

ولم‭ ‬تكن‭ ‬تدرك‭ ‬ماذا‭ ‬ستكون‭ ‬عليه‭ ‬حياتها‭ ‬عندما‭ ‬ألغت‭ ‬خطبتها،‭ ‬فرغم‭ ‬أنها‭ ‬كانت‭ ‬تحب‭ ‬خطيبها،‭ ‬فإنها‭ ‬قالت‭ ‬له‭ ‬وداعاً‭ ‬يا‭ ‬توم،‭ ‬وهو‭ ‬المبشر‭ ‬الشاب‭ ‬الذي‭ ‬كان‭ ‬سيصبح‭ ‬زوجها،‭ ‬فقد‭ ‬أرادت‭ ‬أن‭ ‬تضع‭ ‬الله‭ ‬أولاً‭. ‬والآن‭ ‬بعد‭ ‬خمسين‭ ‬سنة‭ ‬وقد‭ ‬أصبحت‭ ‬من‭ ‬ذوات‭ ‬الشعر‭ ‬الأبيض،‭ ‬تطلعت‭ ‬من‭ ‬نافذتها‭ ‬إلى‭ ‬1200‭ ‬طفل‭ ‬الذين‭ ‬لها‭.‬


ماتت‭ ‬ولم‭ ‬يكن‭ ‬لها‭ ‬أبناء‭ ‬من‭ ‬جهة‭ ‬الجسد‭ ‬ولكن‭ ‬عوضها‭ ‬الرب‭ ‬بأن‭ ‬ناداها‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬15‭ ‬الف‭ ‬طفل‭ ‬تولت‭ ‬هى‭ ‬برعايتهم‭ ‬وأصبحوا‭ ‬رجالا‭ ‬وسيدات‭ ‬خلال‭ ‬ال55‭ ‬سنة‭ ‬مدة‭ ‬خدمتها‭ ‬بمصر‭ ..‬قالوا‭ ‬جميعهم‭ ‬وداعا‭ ‬ماما‭ ‬ليليان‭ ‬أثناء‭ ‬مراسم‭ ‬وداعها‭ ‬الى‭ ‬مثواها‭ ‬الاخير‭.‬

إرسال تعليق

أحدث أقدم