| عالم المكتبات | قصاقيص |
مارى إلياس زيادة أو مى زيادة أديبة الشرق والعروبة كما كان يطلق عليها أصدقائها الأدباء والشعراء المعاصرين لها -- أمثال الشيخ مصطفى عبد الرازق، هدى شعراوى، طه حسين، عباس محمود العقاد، أنطون الجميل، إبراهيم عبد القادر المازني وخليل مطران -- قد كانت رمزا للصدر الرحب للأفكار والأديان السماوية وغير السماوية فى زمن بدا فيه التعصب يأخذ مجالاً واسعاً بين شعوب الأرض وتأججت بسببه الحروب المدمرة، ولكنها كأديبة وكاتبة مرموقة ولها أسمها فى عوالم الرجال منذ 1911 لم تنصاع لمثل هذه المهاترات أو الأفكار الهدامة. لقد كانت مى مثال صادق للكاتب المسئول الذى يهتم بشئون وطنه، وبكل دول الوطن العربي، تحمل فى طياتها همومه وآلامه، بل هى من تكاد تكون من الأقلية الذين كانت كتباتهم تحض على المحبة والسلام.
يذكر لنا محمد عبد الغنى فى كتابه «مى أديبة الشرق والعروبة» الصادر عن عالم الكتاب في عام 64 أي بعد عشرون عاما من وفاتها، عن مثل كان حياً بيننا لأنسانة مثقفة وأديبة وكاتبة راقية تكره التعصب وتحب الجميع، وفتحت بيتها كمنتدى وصالون ثقافى لتستقبل فيه جميع الأدباء والفنانيين والعلماء فى وقتها، وكان لها أثر جميل على جيل بأكمله نقلت الأبتسامة والروح المرحة والمتزنة للجميع بوجهها الهادئ المشرق.
ولدت مى من أب مارونى وأم أرثوذكسية فى الناصرة بلد المسيح ومن هنا لم يكن عندها مجال للتعصب لأحد المذهبين، ولم يعرف عن مى تهاون فى أمور دينها أو زيغ فى عقيدتها، بل كانت متدينة كثيرة التدين، ولم تزعزع الأحداث الأخيرة التى قابلتها بعد وفاة والدها شيئاً من ثبات إيمانها، بل زادت إيماناً وثباتاً، ويؤكد هذا الكلام عباس محمود العقاد قائلاً أن ميا لم تكن مؤمنة بقلبها وعواطفها بل كانت متدينة بعقلها وتفكيرها، فلم تنخدع بما قرأت من كتب الملحدين أو الهدامين ولم تجد هذه النزعات الإلحادية أن طريقاً إليها، فكانت تناقش فى الدين وتناظر فى اللاهوت.
ومع ذلك فمى المسيحية المحافظة على تعاليم دينها لم يكن لضيق صدرها بما رحب من الديانات الأخرى، ولم يعرف التعصب سبيلاً إلى عقلها الواسع وقلبها السمح، فهى تحترم الإسلام وتشيد بفضله، وتحترم شريعة موسى، وتحترم كل شريعة تشجع على الخير وتدعو إلى السلام والآمان، فتقول «إذا ذكر الأنجيل أنحنت الرءوس إجلالاً، وتجمهرت النفوس حباً حول السيد المسيح أستاذ الرحمة والغفران، وفى التلفظ بأسم القرآن لتهتز القلوب طرباً على وفق الآيات والأسجاع مرتلة مع السور اسم النبي العربى».
كانت مى ترى فى الأديان كلها خيراً على العالم وبراً بالأنسانية فهى لهذا تنصفها، ولا تنكر عليها وجوه الخير والبر والجمال فيها ولكنها لم تشغل نفسها بمناقشات تقضى إلى الموازنة بين عقيدة وعقيدة ولم تضيع وقتها فى مجالات تصل إلى تفضيل مذهب على مذهب.
لقد كانت مى لبقة كيسة حينما تكتب فى موضوع يتصل بالأديان من قريب أو بعيد، فالمسيحى يقرؤها وهو راض عنها لأن فكرتها فكرته، والمسلم يقرؤها وهو راض لأنها تنصف ملته وتحترم عقيدته ولو أتيح لبوذى أن يقرأها فلا شك فى أنهسيرضى عنها لأنها تكتب لكل إنسان، ولجميع الأديان.
وفى هذا السياق قال الكاتب سلامة موسي فى مقدمة كتابها «بين الجزر والمد» أن مى تساير الشباب فى تشوقه إلى الصوفية طليقة من القيود المذهبية والفروق الدينية التى كثيراً ما مزقت الوحدة الوطنية والرابطة القومية، طالما تمنت مى أن يهدأ يوماً ثائر العواطف المتطرفة، وتتوازن قوى الأنصاف، فيرتفع المرء بإدراكه إلى أفق يشرف منه على جميع النزاعات الإنسانية، وتنعى على الناس أن يطلقوا على ما عند غيرهم تعصباً ويطلقوا على ما عندهم غيرة ونخوة وحمية، والحق أنه تعصب فى الحالتين، ومماثلة عند الطرفين ولكن الناس يغالط بعضهم بعضاً، وتنتظر مى اليوم الذى ينسى الناس فيه إختلافات المذاهب، وتتسائل متى يقولون مع الشاعر:
هذى المذاهب كاها دين الهدى
كأشعة الشمس مفترقين على مدى
والملتقى فى مصدر الأنوار.