عالم المكتبات | كتاب جديد |
![]() |
فايز في معرض الكتاب مع سلمى فايز مصممة الغلاف |
قلم: نادر حبيب
هل يمكن أن يبدأ الأنسان من أول وجديد، هذا هو السؤال الذي طرأ على ذهني بمجرد أن انتهيت من قراءة رواية "من أول وجديد"، وكثيرا ما كنت أتمنى أن أكون مثل جهاز الكمبيوتر أستطيع إعادة بناء نظام التشغيل الويندوز لحياتى، أو إعادة التشغيل عند نقطة محددة من تاريخ حياتى تكون فيها الأمور جيدة بحيث لا أعيد الأخطاء التى وقعت فيها من قبل وأبدأ بداية جديدة أستطيع من خلالها لتحقيق أحلامى، وبالطبع كل هذه الأمور خيالات مما يطلق عليها الخيال العلمى، وهذا لأن الإنسان ما هو إلا مجموعة من الإختيارات التى يتخذها ويقررها ويتحمل نتائجها أو يصاب بخيبة الأمل والإنعزال عن العالم وقد يصاب بأمراض نفسية تؤثر عليه في المستقبل وعلى من حوله، أو يكون قوى فيجد من خلال أزمته والأختيار الخطأ طريق النجاح والتغيير للأفضل، ولكن كل هذا بالطبع يعتمد على شخصية الفرد، وثقافته ودراسته وتربيته التى قد تدفعه للأمام أو تأتى عليه كما يأتى الدهر علي الإنسان.
رواية "من أول وجديد" لمحمود أحمد فايز، والتى نشرت بدار نشر كتابى للنشر والتوزيع هي رواية كأنك تشاهد فيلم هندى من أفلام أميتاب بتشان القديمة تلك الأفلام التى كان يمكن أن تقضى معها أكثر من ٦ ساعات، ففي هذه الرواية العديد من الأزمات أو نقطة الذروة والتى كلما أعتقدت أنها حلت تجد مشكلة جديدة قد صعدت إلى السطح وتبدأ المحاولات في حل المشكلة من أول وجديد، شخصياتها كثيرة ومتنوعة وغنية ولكل شخصية حياتها الخاصة ولكن في النهاية تجد العديد منها تتقابل في النهاية مصادفة، ألم أقل لك عزيزى القارئ أنه فيلم هندى، أما الفترة الزمنية التى تغطيها الرواية من ١٩٨٨ وحتى عام ٢٠٢٣، وهى فترة زمنية كبيرة نسبيا، ولكن بالطبع للمؤلف كل الحرية لأختيارها من أجل نسج خيوط قصته المشوقة.
![]() |
غلاف الرواية من تصميم سلمى فايز |
لقد قمت بشراء رواية "من أول وجديد" قبل عيد الأضحى وقررت قراءتها في إجازة العيد، وتعاملت معها على غرار أفلام العيد، وخاصة عندما بدأت في قراءتها قبل العيد ووجدتها من التشويق ما يكفي لكى أقرأها مرة واحدة فبالطبع لن أجد أفضل من أجازة العيد الكبيرة وكنت فكرت أن أقسمها على نفسي خلال فترة أجازة العيد، ولكن من روعتها أنتهيت من قراءتها خلال يومين، وهذا بالطبع غير ما كنت مخطط له، فالكاتب يعتبر نفسه قد نجح إذ ما أستطاع أن يربط الكتاب في يد القارئ المتشوق لمعرفة نهاية القصة وهذا ما حدث معى بالفعل.
في روايته يحكى لنا فايز عن شخصيتين، أرى أنهم شخصيتين محورتين في الرواية بعكس كثير من الروايات التى يكون فيها شخصية البطل هى الغالبة على كل أحداث الرواية، ولكن هنا لدينا شخصيتين تامر الخال وحازم أبن الأخت، وبالرغم من أنى تذكرت المثل القائل "الواد أن فلح طلع لأبوه وأن خاب طلع لخاله"، وهو ما كان مسيطر على تفكيرى أثناء التنقل بين طيات الرواية إلا أن تكتشف أن هذا المثل ليس صحيح بالمرة في كثير من الأحيان، فالخال في بداية الرواية ضائع مشتت لا يحب المواجهة، ولكن ينقلب الحال في نصف الرواية ليتحول إلى البطل الشجاع الذى لا يمكن أن تقف أمامه أى عائقة، أما أبن الأخت حازم فهو منذ مولده نشأ وتربى على أنه بطل، ولكن في نصف الرواية مع تصاعد الأحداث تجد أنه أصيب بأحباط ولكنه يعود ليكون البطل من جديد الذى لا تقف أمامه أى صعوبات، وهو بالتحديد من أعطى لخاله القوة ليكون بطل بعد أن كان يحى حياة الضعفاء الهاربين من المسئولية.
رواية "من أول وجديد" ناقشت العديد من المشاكل التى تواجه مجتمعنا اليوم، وهى تلك المتعلقة بعلاقتنا الإجتماعية، وأختلاف الأجيال في التعامل مع تلك القضايا الإجتماعية، أولهم مشكلة الأسرة وكيفية تربية الأبناء والتسلط عليهم وعلى أختياراتهم حتى بعد أن نضجوا وأصبحوا يافعين، ولكن ليس لديهم القدرة على تحمل المسئولية نتيجة تلك التربية الخاطئة، وكذلك أختيار كثير من الشباب السفر والبعد عن الأهل حتى لا يتحملوا مسئوليتهم تجاه أسرهم وخاصة عند وصول الأب والأم لمرحلة الشيخوخة، وهو ما يترك أثر سيئ علي الوالدين وإحساسهم أن زرعتهم التى راعوها طوال عمرهم وشجرتهم التى تمنوا أن تظللهم عند الكبر أصبحت لغيرهم في وقت هم في أشد الحاجة إليها، وكذلك ناقشت الرواية حال أبناء المطلقين، وهنا وبالرغم من أن شخصية البنت التى أبدعها فايز في هذا الجانب بالتحديد أستطاع أن ينقل لنا كيف تعيش تلك الأبنة التى طُلقَ أبويها لتعيش هى في صراع نفسي شديد محبوك حبكة درامية رائعة وتأثير ذلك في علاقتها بالآخرين، ومع والديها بعد ذلك، وكيف أنها أستطاعت في النهاية أن تبدأ من أول وجديد لتخرج من أزمتها فتاة قوية قادرة على وزن الأمور، والحياة بأستيعاب لما حولها من مواقف.
أما المشكلة الإجتماعية الكبرى والكارثة الحقيقية التى أستطاع أن يكشف عنها فايز فى روايته هى كيفية تعامل المجتمع مع ذوى الهمم، والمصاعب التى تواجههم من أول نزولهم الشارع وحتى عودتهم إلى البيت لقضاء أى مصلحة يرغبون في قضاءها، وكيف يتعامل معهم المجتمع بكل قبح بالرغم أنهم يريدون حقوقهم المشروعة في الحياة كغيرهم من المواطنين المحبين للحياة، بل الأكثر من ذلك تصورات وخوف أهلهم عليهم وخاصة بعد موتهم، فهم طوال الوقت يفكرون في كيفية مساعدتهم ليعيشوا حياة كريمة بعد وفاتهم وإنتقالهم لدار البقاء، وهذا ما يؤرقهم وينغص عليهم عيشتهم طوال حياتهم وليس متاعب أبنائهم من ذوى الهمم.
ولكن مع طرح كل هذه المشاكل التى قابلها بطلى الرواية والشخصيات المساعدة لها والتى قد تصيبنا بالاكتئاب، إلا أن فايز لم يرغب في أن يتركنا فريسة لذلك الظلام الحالك، بل من وقت لآخر يترك لنا بارقة أمل وتعليق على لسان أبطال روايته تضحكنا أو ترسم الإبتسامة على وجوهنا، وعمد فى النهاية لحل كل المشاكل التى صارعنا مع أبطال الرواية لحلها ويرسم لنا أبتسامة في النهاية وأمل ودرس نتعلم منه أن المستحيل يمكن أن يكون سهل، إذ ما وقف الجميع بجانب بعضهم بمحبة وإخلاص.
من أجمل الأشياء التى وجدت فايز يتحدث عنها في روايته فكرة الاعتذار والتى نجدها قد أختفت في حياتنا في كثير من المواقف، الإعتذار عن الخطأ، أو الأعتذار عن أذية نفس الآخرين، أو الشعور بالآخر أساساً، كلها قيم بدأت في الاختفاء وظهرت مكانها الشعور بالكرامة، والأنانية، ولكن أبطال الرواية ذكرونا أن الأعتذار لازال موجود ومهم لمجتمعنا، للكبير والصغير على حد سواء، فالشخص الذى يعتذر هو أنسان قوى نفسيا ولديه إحساس بمن حوله، وعدم ترك الأمور لفترات طويلة قد يساعد على حل الكثير من المشاكل.
أما عن الفترة الزمنية التى تغطيها الرواية من ١٩٨٨ وحتى عام ٢٠٢٣، لي فيها حديث كبير، ففايز يبدأ معك بتاريخ وحادثة معينة وينتقل بك للمستقبل ويعود للماضى ويرجع بمنتهى السلاسة للمستقبل وهكذا المنوال طوال الرواية وهذا ليعطينا خلفية عن الأحداث وأسباب أتخاذ الأبطال لمواقفهم المختلفة من ناحية وليعرفنا بشخصيات الرواية بسهولة و يسر كأنه ينسج شخصيات من عدم لتجد لنفسها مكان في سهولة ويسر بين أبطال الرواية الأصليين، مما جعلنى مع كثرة الشخصيات والأحداث أن أحضر ورقة وقلم وبدأت أرسم خط زمنى أكتب عليه التواريخ والأحداث من ناحية ورسمت شجرة للعائلة التى تدور حولها الأحداث والشخصيات التى تظهر حتى لا يضيع منى شخصية أو حدث فالتركيز في هذه الرواية مهم جداً، حتى أعتقدت أنى فى الثانوية العامة وأستذكر دروسى بطريقة الخرائط الذهنية.
أما عن الغلاف الذى صممته سلمى فايز، فهو ليس كالرسومات التقليدية لمثل هذه الروايات التى يعتمد عليها الفنانين الكبار في رسم بعض الخطوط، فى تعبير منهم عن الصراع النفسي الذى سيواجهه البطل من أحداث، ولكنها رسمة كتلك النوعية على كتب وروايات الشباب، الرسومات البسيطة، ولكن أهم ما يميز هذا الكتاب إنه يجعل القارئ يتخيل شكل البطل والشخصيات الأخرى كل بما يريد أن يراه، كل حسب هواه، وأيضاً تخيل الأماكن وشكلها، وهذا ما أحببته فالغلاف رسم شخص واقف في نافذة بظهره ولم يرينى وجهه وهذا يساعد الخيال في التحرك بحرية في جنبات الرواية، مع أختيار ملابس الأبطال وحتى الإكسسوارات التى يلبسونها، وهذا على ما أظن ما نجح فيه فايز بدون أن يكتب أى كلمة عنه، ولكن إنطباعتنا الشخصية عن تلك الشخصيات هى التى سترسم الشخصيات في مخيلتنا، وحتى مع تغير المواقف ستجد نفسك تعيد رسمهم بملابس جديدة كل حسب الموقف التى يمرون بها.
أما أكثر شخصيتين سعدت بوجودهم بالقصة هما أحمد ومحمد مجدى أصدقاء حازم في الجامعة، التوأمين شعلتا النشاط الذى يحرك الجامعه بأكملها وأنشطتها، وبالرغم من أنهم شخصيات ثانوية في الرواية إلا أنهم مؤثرين جدا في البطل الذى يرغب دائما بالانطواء، وهما من ساعدوه على مجابهة الخوف من مقابلة الجمهور، ليكون شخصية فعالة وقدوة للآخرين، هل فعلا هناك شخصيات مثل هذه في الحقيقة، لو هناك شخصيات مثل هذه فهم بحق أفضل الأصدقاء، وأعتقد أن الجميع سيظل يفتكرهم حتى بعد تخرجهم.
الرواية تقع في ٢٩٤ صفحة، ولكنها في الحقيقة تغطى فترة زمنية كبيرة كما سبق وأشرت، وهذا على الجانب الآخر كان سيئ حيث أن فايز تجاهل الأحداث السياسية والاجتماعية التي مرت على مصر في تلك الفترة والتى أعتقد أنها كانت فى مخيلته أثناء كتابة الرواية وأثرت على شخصيات الرواية، ولكنه مع الأسف لم يشر إليها من قريب أو بعيد، وهذا بالطبع لو كان حدث كان أعطى الرواية بعداً آخر، عايشه المصريين في تلك الفترة الزمنية، بل وكان سجل لنا كيف تم تغيير فكر المجتمع تجاه ذوى الهمم وكيف أن الدولة أصبحت تسن لهم القوانين وتحاول جاهدة حل مشاكلهم التى يتعرضون لها، ولكنه في نفس الوقت أستطاع أن يطرح أمامنا بمنتهى السهولة كيف أن الجيل الجديد من الشباب في فترة الخمسة وعشرين سنة الماضية أصبح مختلف وبمساعدة التكنولوجيا لخوض غمار الحياة بمنتهى النضوج، وكيف أن من كان شاباً في أوائل القرن الحالى أصبح أبا وأما بالرغم أن الكثير منهم يرفضون أن يصدقوا هذه الحقيقة التى كشفها لنا فايز في روايته التى أتمنى أن أراها في يوم من الأيام عملا دراميا راقيا هادفاً مليئ بالأحداث غنى بالشخصيات والحوارات، وبالرغم من أن الرواية قد يعتقد أن المؤلف وضع نهاية لروايته إلا أنه في الحقيقة تركها مفتوحة لخيال القارئ لينهيها كما يريد ولهذا سجل رأيه في الغلاف الأخير قائلاً: "لا توجد نهايات في هذا العالم .. ما النهايات إلا بدايات جديدة".