دار الكتب اللبنانية .. تاريخ عريق وكفاح سنين

عالم المكتبات | مكتبات في الذاكرة |

قلم: سلوى منيمنة*

بمناسبة مرور 99 عاماً على تأسيس دار الكتب الكبرى في بيروت (25 تموز 1922)، أودّ مشاركتكم ببعض المعلومات الهامَة والشيَقة حول تأسيس الدار كما رواها الفيكونت فيليب دي طرزي (مؤسّس دار الكتب) في مقال نشرته مجلة المجمع العربي بدمشق عام 1923 بطلب خاصّ من العلّامة السيد محمد كردعلي رئيس المجمع بهدف نشر إذاعة اسم هذا المعهد الكتابي بين أهل الفضل والأدب شرقاً وغرباً.

ويقول الفيكونت فيليب دي طرزي أنّ فكرة تأسيس دار الكتب في بيروت قد جالت في خاطره قبل حوالي 30 سنة من تأسيس الدار. وقد عرض الأمر على الحكّام (العثمانيين) الذين تولّوا شؤون ولاية بيروت آنذاك كنصوحي باشا ورشيد باشا وغيرهم... فكان منهم أن استحسنوا ذلك واعدين بعرض المشروع على الباب العالي ليكتسب صفة رسمية. لكنّ السياسة في ذلك العصر حالت دون ذلك؛ ولم تتحقق الأماني إلا بعد الاحتلال الفرنسي لسوريا ولبنان بأربعة عشر شهراً، أي على أثر وصول الجنرال غورو إلى لبنان بأيام قليلة. فقد أبدت المفوضية العليا الفرنسية ارتياحها لمشروع طرزي وأبدت استعدادها لمدّه بالمساعدات اللازمة.

وفعلاً باشر طرزي تأسيس دار الكتب في شهر كانون الأول 1919. وقد جعل بيته في البداية مركزاً مؤقتاً ريثما يتسنّى الحصول على مركز لائق. وأخذ يشتغل بلا ملل لبلوغ الغاية المقصودة في حين أنّ معظم أبناء الوطن كانوا يتطاحنون في مضمار السياسة. ولكنّه، حذراً من فشل المشروع، أخفى الأمر عن كل إنسان مدة الأشهر العشرة الأولى. وصار يعمل سرّاً في تجهيز كل مقتضيات المكتبة حتى وثق من نجاحها وثبات نموّها. وقد أفصح طرزي عن بعض المتزلفين الذين سعوا إلى إقصائه عن المشروع ليفوزوا بمنصب إدارة المكتبة قائلاً: "حقيقةً أنّ ما كنت أحذر منه وأتوقعه قد تمّ بالفعل لأنّه عندما أذاعت الصحف في شهر أيلول 1920 نبأ تأسيس دار الكتب، أخذ بعض الذين لا مبدأ ولا خلاق لهم من عشّاق الوظائف وعبّاد المال يطرقون أبواب المفوضية متزلّفين ليُعهد إليهم بإدارة المكتبة. وشرع البعض الآخر يجتهد في تحويل اهتمامي عن مشروع ليس لي منه أقل فائدة مادية. لأني لبثت سنتين وخمسة أشهر أشتغل بلا راتب خلافاً لسائر عمال الحكومة".

وكان طرزي يقضي هزيعاً من الليل منصرفاً إلى مراسلة المؤلفين والمحافل الدولية ورؤساء الحكومات وأصدقائه العديدين في البلدان البعيدة لمساعدته في إنجاز مشروعه. وفي النهار، كان يزور أرباب المطابع ورؤساء المدارس وذوي المكانة الأدبية فجمه منهم بمثابة هدايا من الأسفار المطبوعة والمخطوطة التي ملأت جانباً كبيراً من غرف بيته وكان عددها يربو على 3000 مجلد.

وخلال ذلك، شرع فيليب دي طرزي في البحث عن مكان يتخذ مركزاً لائقاً لدار الكتب، فتوفّق بعد عناء طويل إلى اختيار مبنى المدرسة البروسيوية ريثما يتهيّأ للحكومة أن تشيّد لهذا المعهد بناءً مستقلاً مناسباً تتوفّر فيه كل المحسنات العصرية (إنتقلت المكتبة عام 1935 إلى مبنى مجلس النواب في ساحة النجمة في وسط بيروت).
وفي أوائل كانون الثاني 1921، أنشأ طرزي دار الكتب رسمياً وعيّن لها بالاتفاق مع المفوضية العليا ثلاثة مأمورين متصفين بالأمانة والعلم من بينهم الشاعر الياس حنيكاتي الذي أبدى نشاطاً وهمّة عالية في سبيل إنماء المكتبة.

وقد أهدى فيليب دي طرزي المكتبة القسم الأوفر من نوادر الكتب الموجودة في خزائنه والتي قضى معظم حياته في اقتنائها. ولكن للأسف، كانت ميزانية حكومة لبنان الكبير في تلك المرحلة خالية من أي مخصصات مالية لدار الكتب، إلى أن أقرّت بعد ذلك على الاعتراف بالمكتبة رسمياً وأصبحت دار الكتب منوطةً بنظارة المعارف العمومية بعد أن اضطرّ طرزي أن ينفق من جيبه الخاص على رواتب الموظفين وإنماء المكتبة وتجهيزها.

وفي نيسان 1922، أصبحت المكتبة تضمّ حوالي 16 ألف مجلد منها 13 ألف مجلّد باللغة العربية و3 آلاف مجلد باللغات الشرقية بينها نحو مئتي مجلد مخطوط، وعشر موسوعات، و250 معجماً في شتّى المواضيع. كما تعهّد مديرو 80 جريدة ومجلة بين عربية وأجنبية بإرسال صحفهم مجاناً بانتظام إلى دار الكتب البيروتية ليطالعها القرّاء.

وقد أهدى طرزي وبعض أصدقائه العديد من الرسوم الزيتية الكبيرة (ما زال بعضها يزيّن جدران مبنى المكتبة الحالي) تمثّل أهمّ وأشهر الشخصيات اللبنانية مثل الأمير فخر الدين المعني الثاني والأمير بشير الشهابي الثاني، بالإضافة ألى مشاهير العلماء والأدباء كالشيخ ناصيف اليازجي، الشيخ يوسف الأسير، جرجي زيدان، المطران يوسف داود، خليل الخوري وغيرهم...

ومن التحف النادرة التي حصل عليها طرزي وأهداها أيضاً إلى المكتبة، حبّة أرزّ كُتبت عليها سورتان من القرآن الكريم، وصورة الشاعرة وردة اليازجي مرسومة بقلم أخيها الشيخ إبراهيم.

وبذلك أصبحت دار الكتب الكبرى قرّة لعيون الناظرين ومنهلاً عذباً لروّاد العلم والأدب.

وفي 25 تموز 1922، جرى احتفال التدشين الرسمي لدار الكتب ترأّسه الجنرال غورو الذي أمر بإجراء التحسينات والإنشاءات في دار الكتب حتى تصبح لائقة بعاصمة لبنان الكبير، كما قرّرت الحكومة أن تنفق على المكتبة ما يقرب من 3000 ليرة سورية.


* المصدر: طرازي، فيليب دي، الفيكونت. تأسيس دار الكتب الكبرى. دمشق: المطبعة البطريركية الأرثوذكسية، 1923. (الصورة أيضاً مأخوذة من نفس المصدر).

* سلوى منيمنه أمينة مكتبة في المكتبة الوطنية اللبنانية.

إرسال تعليق

أحدث أقدم

المشاركات الشائعة