بقلم: نادر حبيب
عندما عَرفْ جوزيف ناى أستاذ العلوم السياسية والعميد السابق لمدرسة جون كينيدى الحكومية في جامعة هارفارد "القوة الناعمة" Soft power على أنها القدرة على تحقيق الاهداف السياسية عن طريق جاذبية الثقافة، بدلا من الإرغام أو دفع الأموال، كما عرف "الدبلوماسية الثقافية" - من واقع خبرته كمساعد لوزير الدفاع للشئون الأمنية الدولية في حكومة "بل كلينتون" ورئيس مجلس الاستخبارات الوطنى - بأنها تحقيق ما لا تستطيع سبل الدبلوماسية التقليدية التى ترعاها الحكومة تحقيقه التأثير على الرأى العام، هذا ما بدأ به كتاب "الدبلوماسية الثقافية بين الأصل والصورة" للأستاذة الدكتورة جيهان زكى، - وهى أستاذ علوم المصريات والحضارة المصرية، والباحثة في المركز القومى للبحوث العلمية CNRS centre national de la recherche scientifique بجامعة السربون في باريس، كما أنها عضو المجمع العلمى المصرى وعملت كرئيس الأكاديمية المصرية للفنون بروما، ومستشاراً ثقافياً بالسفارة المصرية بإيطاليا، وعملت كأستاذ زائر في العديد من الجامعات الأوروبية واليابان، كما فازت بعضوية المجلس التنفيذى لمنظمة (الإيكروم) لحفظ التراث العالمى وحمايته إلا أن أختارها رئيس جمهورية مصر العربية كعضوا بالبرلمان المصرى نائبا عن الشعب (ضمن كوته ال٥٪ التى يحق فيها لرئيس الجمهورية بتعيين من يراه مناسبا لهذا المنصب).
![]() |
الحملة الفرنسية بقيادة نابليون بونابرت |
يقع الكتاب في ٢٨٩ صفحة من إصدار دار المعارف (تأسست عام ١٨٩٠) لعام ٢٠٢٢ في تسعة فصول، قامت الكاتبة بترتيبهم ترتيب أكثر من رائع ومنطقى، ففى البداية قدمت لنا تاريخ الدبلوماسية الثقافية ونشأتها التى ترجعها إلى عصر قدماء المصريين، مرورا بالعصر البطلمى والرومانى والاسلامى، ثم في مشهد آخر وبعد اضمحلال دور مصر الريادى كدولة مستقلة إبان الحكم العثمانى، نجد الانفراجة الحقيقية مع الحملة الفرنسية وعودة الروح القومية والصدمة الحضارية التى شعر بها الشعب المصرى، واختيارهم بعد صراع طويل مع الدولة العثمانية لمحمد على الذى أستطاع أن ينقل مصر نقلة حضارية مميزة سجلت بأسمه بحروف من نور على صفحات التاريخ المصرى، حتى وصلنا إلي العصر الحديث وأهتمام الحكومات المختلفة بالدور الثقافى والقوة الناعمة التى أستطاعت أن تكون حائط سد لكثير من المشكلات والعراقيل التى حاولت بعض القوى والدول أن تضعها أمام الدولة المصرية.
قدم للكتاب كل من السيد أحمد أبو الغيط (أمين عام جامعة الدول العربية) والنائب كريم عبد الكريم درويش رئيس لجنة العلاقات الخارجية بمجلس النواب. في كلمته لتقديم الكتاب يذكرنا أبو الغيط بأن مكانة أى دولة بين الدول تتحدد وفق عناصر مختلفة منها العسكرية والاقتصادية والسكانية غير أن من بين هذه العناصر أيضاً جوانب غير مادية أطلق عليها البعض مسمى "القوة الناعمة" وهى جانب من القوة والمكانة يتعلق بما تنطوى عليه الدولة من إرث حضاري و إشعاع ثقافى وحضور فنى وما يرتبط به أسمها لدى الناس، في الشرق والغرب من معان محددة، وما يستحضر ذكرها من شعور تلقائي بالاعجاب والرغبة في المعرفة والاكتشاف.
أما النائب عبد الكريم فيؤكد من خلال تقديمه للكتاب أنه وبالرغم من تزايد الأتصال والتواصل بين الشعوب بفعل التقنيات الحديثة والثورة التكنولوجية، إلا أن بروز معضلات الصراع الحضارى أو صراع الحضارات، ثم موجات من التشدد والتطرف، يليها إرهاب عنيف غزا العالم وغير هويات الدول وتفتيتها وتدمير تراثها الانسانى العالمى فقد بات من الضرورى والحتمى النظر والاهتمام بتفعيل الدبلوماسية الثقافية كدور مكمل ولازم لدور الدبلوماسية التقليدية في تحقيق المصالح الوطنية للدول والتواصل والتعاون بين الشعوب.
الثقافة هو تعريف دقيق لكل الفنون والخبرات الحياتية والمعيشية التى مارسها شعب ما خلال فترات زمنية طويلة، حافظ فيها على ما توارثه من آبائه وطوره بما يتناسب ويتلائم مع حياته في كل عصر من العصور ولكن يظل الأصل موجود وهو المرجعية الأصلية لذلك الشعب، في الفصل الاول تصور لنا جيهان زكى كعالمة للمصريات أول عمل دبلوماسى سجل في التاريخ والذى قام به الشاب "حِر-خوف" أحد رجال الدولة البارزين في ظل حكم الملك "مرن-رع" (2247 - 2241 قبل الميلاد) والذى شارك في تحقيق السياسة العامة للدولة المصرية في ذلك الوقت والتى أستهدفت العمل على أكتشاف البلاد الواقعة جنوب الشلال الأول لنهر النيل، وإقامة علاقات وطيدة معها، فكان أول مبعوث لملك البلاد يتم إيفاده لقبائل ما وراء النهر (بلاد الواوات) كما سمتها النصوص الهيروغليفية للتعرف عليهم والتفاوض معهم وإكتشاف واقعهم الجغرافى وإقامة تعاون مع عظمائهم، ليعود منتصراً محملاً بالهدايا والقرابين لسيده الملك.
![]() |
الأمير حِر-خوف أول سفير ملكى لمصر يسجله التاريخ |
كذلك أشارت جيهان زكى على التعاليم التى تركها الملوك القدماء المصريين في شكل نصائح وخبرات لأبنائهم وكأنها دستور وخطوات لكل من يعمل بالسلك الدبلوماسى، وهو ما نعرفه اليوم بثقافة البروتوكول من فنون المراسم وإبداع الأحتفالات الملكية والمواكب الرئاسية .. وهذا من الجانب الحكومى، أما على المستوى الشخصى فتسجل لنا البرديات والنصوص المرسومة على الجداريات، كيف كان المصرى القديم يعيش في منزله وكيف كانت حياته اليومية التى يبدأها بطقوس رائعة من التزيين والتجميل قبل أن يخرج من منزله ليقابل الآخرين، فيخرج من منزله مهندم حليق الذقن، رائحته جميلة لأنه وقبل أن يقابل الناس سيقابل الآله الواحد الذى يشرق عليه في يومه الجديد بنوره البراق وبالتالى هو سفير لبيته وأسرته التى ينتمى إليها فيما عرف بثقافة الجمال، ولهذا نجد على الجداريات تسجيل لأول Costume designer وهى النبيلة (ميمى) المسئولة عن الرداء الملكى (أى غزل كتان الملابس والابداع في تشكيله)، بما يناسب الذوق الراقى في ذلك الوقت والتى كانت تستعين بها الأميرة الجميلة (توتى) والتى تعد من أحلى وأجمل سيدات البلاط الملكى، والتى يتحاكى الجميع عن طلتها البهية وقدها المياس وبشرتها السمراء وشعرها الأسود المنسدل كستار الليل على ظهرها، والتى أشتهرت بولعها بمساحيق التجميل وبالوصفات والتركيبات المستخلصة من الطبيعة والتى تعنى بالحفاظ على نضارة بشرتها وشبابها.
أما الفصل الرابع فتكتب زكى عن دور المسلات المصرية كدبلوماسى حجرى، ينقل قصص وعظمة المصريين القدماء وانتصاراتهم على الشعوب الأخرى وكأنه سفير فوق العادة على مدار العصور .. بداية من الامبراطورية الرومانية، عندما أنتصر أوكتافيوس في معركة أكتيوم عام ٣٠ قبل الميلاد، على أسطول كليوباترا وماركوس أنطونيوس ليخضع الدولة المصرية البطلمية المستقلة ويحولها إلى إمارة رومانية، وليؤكد ذلك الانتصار قام بنقل أحد تلك المسلات المصرية من أراضى هليوبوليس المقدسة إلى روما، وكأنه ينتقم من المصريين ويخلع قلب العقيدة المصرية القديمة من جسدها، متعمدا العمل على فنائها .. إلا أن العكس هو ما حدث فقد أصبحت هذه المسلات سفيراً لمصر، فوقعت الآجيال المتتالية فى عشق وغرام مصر.
![]() |
المسلة المصرية في أحد ميادين روما الشهيرة .. ميدان نافونا |
أما الفصل السادس فينقلنا نقلة كبيرة بين صفحات التاريخ لنصل لعصر محمد على مؤسس الدولة الحديثة وكيف أنه أستطاع بقدراته الذهنية أن يعى الدور الذى تلعبه الدبلوماسية الثقافية في بناء دولة قوية قادرة علي الحفاظ على سلطتها ومقدراتها بين الأمم، فأهتم بالتواصل الفكرى والعلمى والثقافى بين الشرق والغرب، والقائم على إدراك ضرورة التعرف على لغة الآخر، بغض النظر عن العوائق الجغرافية والتقسيمات الحدودية والصراعات التاريخية، وذلك عندما أسند إرساء قواعد الدبلوماسية في مصر الحديثة منذ يونيو ١٨١٩م إلى الترجمان الأرمنى "باغوص بك يوسفيان" بأعتباره من ذوى الخبرة في الشئون المالية والسياسية فضلاً عن معرفته بالثقافات المختلفة وإتقانه لغات عدة، منها التركية، الأرمنية، اليونانية، الإيطالية والفرنسية، وكلفه بالتواصل مع الجاليات الاجنبية داخل مصر، وفقام بأرسال البعثات لتكوين فئة من المصريين المثقفين لا يقلون في الرقى عن الطبقات العليا الأوروبية وبالطبع فإن مشروع البعثات الدراسية يمثل فكرة رائدة لمحمد على وتنم عن عبقرية متفردة، إذ لم يسبقه إليها حاكم شرقى.
![]() |
الخديوى إسماعيل |
وبدأت تظهر الدبلوماسية المصرية بشكل معاصر في عصر الخديوى إسماعيل، وذلك بمشاركة مصر في معرض إكسبو بباريس عام ١٨٦٧ والذى ناقش أثنائها الخديوى إسماعيل الامبراطور نابليون الثالث فكرة قيام المخطط العمرانى الفرنسي "هاوسمان" - الذى قام برسم شوارع وميادين مدينة باريس - بتخطيط العاصمة القاهرة والتى عرفت بعد ذلك بالقاهرة الخديوية، فظهرت القاهرة كتحفة حضارية تنافس أجمل مدن العالم في ذلك الوقت.
![]() |
معرض إكسبو بباريس عام ١٨٦٧ والتى شاركت فيه مصر لأول مرة في عهد الخديوى إسماعيل |
من خلال صفحات الباب السابع سجلت زكى تلك الفترة التي كتمت فيها بريطانيا على أنفاس مصر باحتلالها ونمو الحركة الوطنية حتى إعلان الاستقلال، وكيف استطاعت مصر عبر نضال طويل أن تعيد الحياة الدبلوماسية وحقيبتها إلى مصر عام١٩٢٢ وتولى أحمد حشمت باشا وزارة الخارجية عام ١٩٢٣ ليضع اللبنة الأولى للهيكل التنظيمي للوزارة، حيث اتخذ قصر البستان بحي باب اللوق بالقاهرة مقرا لعمله.
كذلك تسجل زكى للتاريخ كيف أن راغب عياد الفنان المصري الشاب طلب من أحمد ذو الفقار باشا الوزير المفوض لدى سفارة مصر بإيطاليا في يوليو ١٩٢٤ في إنشاء أكاديمية مصرية للفنون الجميلة بروما على غرار الأكاديميات المختلفة التي أنشأتها كثير من الدول في روما لتكون بذلك أول كيان مصري في قلب أوروبا ينضح بالفن المصرى ويعلى لغة الثقافة في عقر دار الغرب.
![]() |
الأكاديمية المصرية للفنون بروما |
أما الفصل الثامن فقد خصصته زكى لكتابة مذكراتها عن تلك الفترة التى تولت فيها إدارة أكاديمية الفنون بروما، في وقت من أصعب الأوقات التى مرت على مصر، وهى تتكلم عن تلك الفترة ما بين عامى ٢٠١٢ و٢٠١٩ التى شهدت متغيرات سياسية وأقتصادية وأجتماعية كادت أن تفقد مصر هويتها ولتتحول إلى هوية ريداليكية ليس بها طعم أو لون .. ففي عام ٢٠١٢ كانت مع بداية حكم الأخوان وسيطرتهم على مقاليد الحكم في كل مفاصل الدولة وبالطبع كجماعة تكره الثقافة والانفتاح والنور جمدت الكثير من أنشطة وزارة الثقافة وخاصة أكاديمية الفنون بروما والتى تعتبر سفير مصر بين الأمم والتى كان قد سبق العديد من وزراء الثقافة في تنميتها على أساس أنها القوة الناعمة التى تحرك الدبلوماسية الثقافية في شتى أنحاء العالم وخاصة في روما، في قلب أوروبا وأهم دول العالم القديم .. إلا أن القائمين عليها في ذلك الوقت شعروا بالخطر الداهم وأستطاعوا بمساعدة الجالية المصرية في ذلك الوقت أن يعيدوا أنشطتها حتى مر ذلك الوقت الصعب وعودة الروح المصرية وقيام ثورة ٣٠ يونيو من أجل البحث والحفاظ على الهوية المصرية التى كادت أن تضيع في غياهب التاريخ .. ونجحت الادارة في ذلك الوقت بالحفاظ على صوت مصر في الخارج في ظل متغيرات وأحداث سريعة كادت أن تفقد مصر علاقاتها السياسية والدبلوماسية بإيطاليا وبقية دول الاتحاد الأوروبي.
![]() |
المتحف الذى أقيم داخل أكاديمية الفنون المصرية بروما لتوثيق تاريخ الاكاديمية |
أما الفصل التاسع فيعطينا مثال على الدور الهام الذى قامت به أكاديمية الفنون بروما للحفاظ على آثارنا وتراثنا وفنوننا في ظل وزير مثقف وصاحب فكر مبدع هو وزير الثقافة ثروت عكاشة الذى أرتبط أسمه بأوسع عملية بناء ثقافى في التاريخ المصرى الحديث، فهو مؤسس البنية التحتية للثقافة والفنون في مصر، وأول من أستخدم مفهوم القوة الناعمة بمعناه الحديث الذى عرفه جوزيف ناى في بداية التسعينات في خدمة الأمة العربية وجعل الثقافة تجلس بما يليق بها على عرش السياسات الدولية مُدشناً السابقة الأولى في العالم للتعاون الدولى الثقافى حيث التفت مختلف الحكومات بأختلاف توجهاتها إلى ملف إنقاذ آثار النوبة تحت مظلة اليونيسكو.
![]() |
أكبر عملية لإنقاذ أثر في التاريخ بقيادة الدكتور ثروت عكاشة |
نستطيع هنا أن نقول بمنتهى الثقة إن نفهوم القوة الناعمة لم يعد مجرد تعريف لفظى وإنما - ومع تحول العالم إلى فضاء تواصلى مفتوح ووقوع تلك الحرب الذهنية في قلبه، مع أرتفاع الكلفة البشرية والاقتصادية للعمل العسكرى وأنفتاح الحدود أمام تدفق المعلومات والصور والافكار - أصبحت "القوة الناعمة" أداة مهمة لها جدواها في دوائر صنع القرار بهدف تحقيق المصلحة الوطنية بل وإن ديمومة حصادها النفعى يعتبر نوعاً من أنواع النصر المستدام والأمتياز طويل المدى بشكل غير مباشر وبطابع غير إكراهى.