يوسف والمتنبي وقلب يوسف

 عالم المكتبات | كتاب جديد |

قلم: نادر حبيب

من الصعب جدا أن تقرأ كتاب تعرف مؤلفه وتتناقش معه وتجادله حيث أنك وبكل تأكيد سيكون لك انطباعات مسبقة عما كتبه، فما بالك أن ما كتبه عن المتنبي وشعره الذي أتذكره من أيام الدراسة الثانوية، ذلك الشاعر الذي تحمل كلماته الكثير من الصعوبات في فهم معانيها وما يقصده المتنبى أساساً .

يمكن أن يكون انطباعي هذا عن المتنبى ناتج عن سوء تقديم وزارة التربية والتعليم لشعر المتنبي مع بعض هواجس أعرب ما تحته خط وموقع الكلمة في الجملة وأشياء من تلك الأشباح التى يمكن أن تخلق ألف حائط بينك وبين المتنبى وتجعلك تكره حتى الأسم بمجرد أن يحوم حولك من خيلائه.

يوسف رخا هو صحفى وشاعر وروائي يكتب باللغة العربية والإنجليزية كما يعرف نفسه في كتابه "ولكن قلبى متنبي الألفية الثالثة" ولكن أحب أن أعرفه أنا بأنه شخص بسيط محب لكل من حوله شديد الثقافة روحه مرحه، زميل عمل وصديق مخلص، صحفى مجد ومجتهد له تاريخ طويل في جريدة الأهرام ويكلى، وجوده يُدخل البهجة والمرح في كل من حوله، ننتظر حضوره الأسبوعي للجريدة، نتناقش فيما يدور من أحداث بشكل راقٍ .. كلٌ يقول رأيه وفي النهاية ننتظر رأيه وتعليقه لنعيد الكَرْة من جديد ويمضي كل منا في طريقه لنتجادل معه الأسبوع الذى يليه في مواضيع شتى.

مع يوسف رخا في حفل توقيع الكتاب
عندما أهداني الكتاب ورأيت عنوانه، شعرت حقيقة بالخوف، فها هو يعيد فتح العلبة ليخرج المارد الذى خفت منه طوال حياتى أن أقترب منه، بالرغم من أنى أدعى نفسى مثقفاً، ولكن في الحقيقة، عندما أقرأ اسم المتنبي على أى كتاب أتذكر دروس اللغة العربية المرعبة في المدرسة بما فيه الكفاية في تلك الأيام البعيدة.

وأنا لا أدرى لماذا المتنبي بالتحديد، فأنا أحب شعراء كُثر وأحب أن أقرأ لهم إلا ذاك المتنبى ، بينى وبينه كره شديد، المهم أني قررت أن أفتح الكتاب الذي أهداني إياه رخا في حفل توقيع كتابه "ولكن قلبى متنبي الألفية الثالثة" من باب الفضول والأدب وحق الزمالة وحق كل ما يمكن أن يقال في تلك المواقف … وفى الحقيقة وجدتنى منبهراً بما كتب، فهو بحق يمكن أن يطلق عليه السهل الممتنع.

في مائة واثنى عشر صفحة استطاع يوسف أن يعرفني على المتنبي بشكل جديد وكأنه أخذ بيدى ليهدئ من روعى حتى لا أخاف من ذلك المارد اللعين، حتى أنه في النهاية أقنعنى أن هذا المارد ما هو إلا شخص رائع مَلِكَ نواصى اللغة. وتجدنى وقد بدأت أستعير من الكلمات القديمة ما ينفع .. من الواضح أن ما قام به يوسف في كتابه أمراً معدياً.

لقد جذبنى الكتاب حتى أنى قرأته في ليلة وضحاها، في كل قطعة نثر يسبقها أبيات شعر للمتنبى، ولغير المتمرس في شعر المتنبي سيجد نفسه يقرأ البيت مرة وأثنان وثلاث، وتعيدها مرة أخرى حتى تفهم ما كتبه المتنبي وستجد نفسك تستخدم التكنولوجيا الحديثة لكى تبحث عن المعانى المقصودة بالرغم أن الكلمات مكتوبة باللغة العربية، ولكنها كلمات طوى عليها الزمن وتركناها نحن في غياهب التاريخ لكى نستبدلها بلغة ركيكة فرضها علينا جيل الأنترنت، حتى أصبحت تلك الكلمات كاللغة الصينية كما يقول يوسف في كتابه، بالرغم من أنها كلمات رائعة.

كتاب "ولكن قلبى متنبي الألفية الثالثة" هو بحق كتاب السهل الممتنع، أنا لا أعيد ما سبق وكتبته ولكنى أدعمه، فيوسف رخا يحاول من خلال الكتاب أن يكتب ذكرياته بل الأكثر من ذلك  هو ينقل لنا تجربته الحياتية بشكل جديد تستحق القراءة - ليس لأنه صديق - ولكن لأنها بحق تستحق القراءة وبعمق، ففيها يشرح لنا كيف أنه أستطاع تغيير نمط حياته إلى الأفضل، فقد توقف عن التدخين، وبدأ في ممارسة الرياضة بشكل منتظم بل وغير من عاداته  بل وعلاقاته مع البشر للأفضل بعد أن أمره الأطباء بذلك نتيجة وعكة طبية شديدة ألمت به.

وفي رحلة تغيير نمط الحياة قرر أن يعيد أكتشاف المتنبي والذى أصبح من أهم إنجازاته كما يقول، وهذا الكتاب ما هو إلا نوعاً مختلفاً من أنواع كتابة المذكرات، بل يمكن أن نقول أنها نوع من أنواع الأعتراف بأخطاءه في الصبا والشباب، لكى يستطيع أن ينقى روحه ويعالج نفسه من هفوات الماضى السحيق، أو كما يقول عليها العاملين في مجال التنمية البشرية، مرحلة التصالح مع النفس.

ينقسم الكتاب إلى جزئين، الجزء الأول عبارة عن أبيات من شعر المتنبي ويليه نثر كتبه رخا تعليقاً على تلك الأبيات رابطاً أياها بتاريخ حياته الذى لا يخجل أن يظهره أمام القارئ الذى وثق فيه وفصح له عما يدور في صدره، مستغلاً في ذلك كلمات المتنبي لينتقل بكل رشاقة بين الكلمات القديمة التى لم نعد نسمعها في حياتنا اليومية إلى الكلمات الحديثة التى يفهمها طفل رضيع شب على ذلك الساحر الصغير "التليفون المحمول"، الذى فُرض علينا وأصبحنا لا نستطيع العيش من دونه.

أما الجزء الثانى من الكتاب فهو وكما أطلق عليه رخا "الشرح"، فتعتقد أنه شرح لما سبق ولكن في الحقيقة هو تكملة لما سبق ولكنه مكتوب بلغة أخف من الجزء الأول، وأعتقد أنه أراد أن يكتب هذا لأبنته قسمت وأبنه مراد ليعرفهم من يكون وماذا فعل ومدى حبه لهم، وهنا أرى لأول مرة الجانب الخفى الذى لا نعلمه عن رخا الأب.

 

في الجزء الثانى يشرح من هو يوسف رخا وماذا فعل، وماذا يريد أن يكون بعد أن أرهقته السنين، ليصل بنا إلي نهاية الكتاب ليقول لأبنه وأبنته هذا هو أبوكم حاول أن يصلح من نفسه لأجلكم قدر المستطاع، وكيف أنه أستطاع أن يغير من ما حوله ليتعامل مع المجتمع كله بشكل جديد وراق يرضيه، ويتصالح مع نفسه وخاصة بعد أن قرر أن يبعد عن ذلك الوحش المريع "الفيسبوك"


أكثر ما جذبني في الكتاب ما كتبه يوسف عن والده وإحساسه به لحظة الوفاة، مشاعر مر بها الكثيريين ولكنه سجلها بشكل إبداعى، وربط الموت بالنوم كتجربة للموت الأخير والمياه وهى تحمله في حمام السباحة أثناء ممارسته الرياضة والشعور بالخفة وفقدان الوزن شعور رائع كما الأرواح بعد الممات، ولكنه سرعان ما يعود ليكشف لنا عن أن المتنبي هو السبب في تذكيره بوالده وما حدث بعدها في بيت الشعر الذى قال فيه "وما أستغربت عينى فراقاً رأيته، ولا علمتنى غير ما القلب عالمه" ويقول يوسف في كتابه عن ذلك "أنا لم أتوقع أن يذكرنى المتنبي بفجيعتى في أبي".

وأكثر ما أضحكني ما كتبه يوسف عن طه حسين، وكيف أنه يتكلم عن زمن المتنبي بألفة وبساطة بالرغم من أن طه حسين يكره المتنبي ويتسأل يوسف، كيف لطه حسين أن يتخيل حقاً شكل الحياة في أيام المتنبى ، في الوقت الذى لا يستطيع يوسف أن يتخيل شكل الحياة أيام طه حسين، بالرغم من أن الفارق الزمنى بين كل منهما مع الآخر مختلف.

في الحقيقة هذا الكتاب دعوة صادقة من المؤلف للتقليل من مواقع التواصل الأجتماعية والعودة للقراءة وللكتاب والكشف عن الكنوز المخبأة فبها لنتعلم ونعلم، وأعتقد أن هذا الكتاب يمكن أن يكون بصدق داعماً لمبادرة أتكلم بالعربىالتى أطلقتها وزارة الهجرة وشئون المصريين بالخارج لأبناء المصريين بالخارج، - أعتقد أنها مهمة أيضاً للمصريين بالداخل- بهدف التمسك بالهوية والعادات والتقاليد المصرية، حيث إن اللغة هي صميم الحفاظ على الهوية.

شكرا يوسف رخا، لإعادة تعريفى بالمتنبى بشكل أكثر من رائع، وفي أنتظار كتب أخرى تغير المجتمع من حولنا حتى ولو بالشعر.

أما الفنان وليد طاهر فقد شارك يوسف رخا في كتابه "ولكن قلبى متنبي الألفية الثالثة" برسوماته الشيقة أبطالها الحصان والإنسان في كثير من النماذج الفاصلة بين فكرة وأخرى، ومن الواضح أنه رسم تلك الرسومات بعد فهم متعمق للنص وهذا ما جعلنى كأي قارئ لكتاب أن آمر سريعاً على الرسم لأكمل النص ولكنى فوجئت أنى بعد أن أنتهى من النص أعود لأتأمل تلك اللوحات وأربطها بما كتب بعدها، يا له من سحر وإبداع في اللوحات المرسومة، كيف له أن يعيد صياغة النص بهذا الشكل السحرى.

أعتقد أنه أختار بذكاء الحصان لما له من أهمية عند العرب في عصر المتنبي لينقل لنا فكرة الأصالة والقوة والشجاعة والأقدام والرشاقة ليربط بين ما كتبه المؤلف والمؤلف نفسه والمتنبى والحصان العربى الأصيل، فكرة رائعة لإيصال الفكرة للقارئ بمنتهى الأريحية والسهولة، ولكن بلمسة عصرية فنية، فنجد الحصان يجلس على قهوة وأمامه التليفون المحمول، وأخرى يأكل الفاكهة ويلعب الرياضة وثالثة يدخن السيجار وغيرها من الأفكار والرسومات التى عبر بها الفنان بالحصان عن نفس المؤلف التى كشفها لنا بين طيات الكتاب الذى صدر عن دار التنوير في ٢٠٢١.

إرسال تعليق

أحدث أقدم

المشاركات الشائعة